إيفا علوية
طوال الليل لم يغمض لها جفن. كان يخرق سكون العتمة المستلقية بين البيوت والأشجار صوت قلبها النابض بدقّات متسارعة حيناً ومتقطعة حيناً آخر، على صدى دوي القصف الإسرائيلي الهمجي على التلال القريبة وأسفل الغابة. لم تكن خائفة أو قلقة على الإطلاق، بل كان قلبها يخفق بشعور ينبئها بأن شيئاً ما سيحصل في الساعات المقبلة. حدث مهم سيغيّر حياتها، أو ربما سيحقّق حلمها فتخرج من قمقم الصورة التي وضعت في إطارها منذ سنوات بعيدة.
"مارون الراس"، هذا هو اسمها الذي لطالما كان معناه محبّباً على نفسها بكلمتيه: الأولى والتي تعني الشريف أو السيد، والثانية التي استمدّتها من وجودها في الموقع الذي تتربّع فيه على عرش أعلى قمة في جبل عامل، والذي تطل منه في مشهد بانورامي رائع يكشف الجليل الفلسطيني والقرى الجنوبية المجاورة. لكن مع كل ذلك كانت تطمح إلى أن تحتضن صورتها مزايا من نوع آخر ..
لم يكن قمر تموز المتربّع وسط سماء من النجوم البراقة رفيق سهرتها الوحيد في تلك الليلة، فمن كل الزوايا كان يشع بريق العيون المتسمّرة لرصد تحركات العدو في مستوطنة (أفيفيم) التي تقع تحت مرمى أنظارهم. كانت تشعر بالطمأنينة لحال "جواد" ومجموعته بعدما أنهوا الترتيبات اللازمة لمواجهة أي هجوم بري قد تقترفه مخالب العدو، بعد فشل محاولاته المستميتة على مدى ثمانية أيام من العدوان الدموي لإحراز أي نصر عسكري من خلال سلاح الجو. كانت تتدفّق في أعماق تربتها حرارة الانتظار التي تلتهب بها نفوسهم لرؤية العدو يغرق في مستنقع مغامراته الطائشة. لقد سمعتهم يخططون ويبتهلون إلى الله تعالى ويعاهدونه على المضي قدماً في طريق المقاومة، بقلوب تفيض بِشراً وإشراقاً لدنو فرصة الفوز بالنصر أو الشهادة إلى جنان الله. كان صوت جواد يتناهى إلى مسامعها بترنيمته العذبة وهو يحلق بنظراته في وجوه رفاقه قائلاً:
- إسمعوا يا إخوان، يبدو أن قيادة العدو ماضية بالتصعيد في حربها الهوجاء للقضاء على المقاومة، وها نحن هنا ننتظر دورنا لتأدية واجب الجهاد بكل ما أوتينا من عزم وقوة، ويبدو أن المعركة زاحفة إلينا برجليها، فهل تشعرون جميعكم بالاستعداد لذلك...؟ يبتسم "سامر" مجيباً:
- والله، إنني انتظر هذه الفرصة منذ زمن، وأنا أشعر أن وجودنا هنا بحدّ ذاته توفيق من الله تعالى. يقاطعه "علي" بنبرة متفاعلة:
- كيف لا أكون مستعداً وقد رأيت في منامي أمير المؤمنين عليه السلام يدلّني على "مارون الرأس" بسيفه ذو الفقار!؟ يضيف "رضوان" بلهجته الحماسية:
- يا رجل، أنا جئت من أمريكا لأحاربهم، وتسألني إن كنت مستعدّاً؟ كان حديثهم يؤنسها بما سمعته أيضا من "محمد" و"جهاد" و"موسى" و"حسن" وغيرهم، حيث كانوا يُجمعون على إحساسهم بأن هذه الحرب ستغيّر وجه التاريخ بنصر ساحق للمقاومة. على دوي هدير طائرات الاستطلاع، ظلّت تركّز نظراتها المترقّبة على الثكنة العسكرية الإسرائيلية في مستوطنة "افيفيم" حيث يتحصّن مركز قيادة المنطقة، إلى أن أدار الليل ظهره، وأشرق الصباح مع إطلالة اليوم التاسع في روزنامة الوعد الصادق.
أشارت الساعة إلى السادسة والدقيقة الخمسين تماماً، فحلّ الموعد المرتقب. ها هم جنود العدو من الوحدة الخاصة "مغلان" يغرزون أنياب مدرعاتهم صعوداً من جهة "جل الدير". مع رهبة المشهد، شعرت أن الزمن قد توقف لبرهة، ولم تصدق عيناها ما تراه، لكنها سرعان ما شدّت أثلامها في وضع التأهب والجهوزية الكاملة التي تتطلبها مواكبة المعركة التي من المتوقع أن تدور رحاها بين لحظة وأخرى. تسمّرت عيناها بازدراء على مشهد تقدمهم وهم يختالون، ظناً منهم أن مهمتم التي ذيلوها بشعار "سكين بين الأسنان" ستكون أشبه بنزهة يصطادون فيها نصراً برياً يعوّض خذلان رفاقهم على المحاور الأخرى. تمتمت مقهقهة: "لو كانت تلك الفئران الغبية المتسلّلة تعلم ما أعدّه لها رجال الله من مفاجآت ستقض مضاجعها، لما خطت خطوة باتجاه مصيرها المشؤوم". "ترى كيف سيبدأ الرد؟". لم تكد تنهي تساؤلها حتى رأت ابن جارتها "يارون" يطل عند نقطة الكمين مفتتحاً نيران المواجهة من على بعد أمتار. هوى الجندي الأول صريعاً فدبّ الرعب في نفوس رفاقه الذين ارتعدت فرائصهم، فصبّوا حمم رشاشاتهم في إطلاق نار كثيف في كل اتجاه بعدما صعب عليهم تحديد مكان المقاوم الذي باغتهم لحظات ليعاود الكرة مع الثلاثة الذين قدموا لسحب الجثة فأرداهم بين قتيل وجريح. لم تكن تتصور أن مجريات المعركة ستتطور بهذه السرعة وتنقلب رأساً على عقب لتتقهقر آليات العدو متراجعة في معنويات محطَّمة، مخلِّفة وراءها غنائم للمقاومة.
- "انظروا يا شباب، ماذا في جعبتنا: أسلحة، عتاد، خوذ، حقائب، مناظير ليلية، وخرائط". تهادت العبارة إلى مسامعها فتطايرت الفرحة في أعماقها وهي تهرول مسرعة إلى اجتماعهم حتى لا يفوتها من تفاصيله شيء.
- "سنرسلها فوراً لتعرض مساء في نشرة الأخبار، ستنزل كالصاعقة على رؤوسهم".
- "الحمد لله على تسديده". "لم تنتهِ المعركة"، تمتمت وهي تلتفت من حولها باحثة عن أشباح العدو الذين سترميهم قيادتهم في محاولة للهجوم من جهة أخرى. تسمّرت عينا "مارون الراس" هذه المرة على مشهد الرتل الذي جاء يدبدب خلف جرافة (د9)ودبابة الميركافا4.
دخلوا من جهة "بركة الحافور" إلى الطريق التي تتصل بـ "يارون". وما إن وصلوا إلى أعلى الطريق حتى رأت صاروخاً موجّهاً يهبط عليهم بصوت مزلزل رجّ الأرجاء محولاً المكان إلى مشهد من النار والأشلاء والدخان. لحظات حذر وترقّب مرّت قبل أن تسمع "جواد" ينادي في أثير الجبهة بأعلى صوته: "احترقت أول دبابة، الميركافا تحترق أمامي". وما هي إلا لحظات حتى رأت "سامر" يصوّب عليهم، وسمعت صوت "جواد" مجدداً يدوّي مبشّراً: "قصفنا الدبابة الثانية وها هي تحترق". "الله أكبر"، صاحت من فورها، وهي تملأ عينيها من المشهد الأسطوري الآسر: هرج ومرج في صفوف العدو، الموكب المنكوب حطّ رحاله، دبابتا الميركافا بركتا أرضاً بعدما رمتها زنود الأبطال بحجارة من سجيل فجعلتها كعصف مأكول. "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، أردفت قائلة تحيي المجاهدين وهم ينطلقون مسرعين على وجه ترابها إلى مكان جنود العدو الذين دخلوا هذه المرة بفرقة مظلية من الجهة الخلفية عبر جبل كحيل وتغلغلوا بين البيوت والمنازل. "لقد بلغت المعركة أوجها"، هزّت رأسها قائلة وهي تلحق بـ "سامر وجواد" اللذين توجها إلى المنزل الذي اختبأ فيه جنود العدو. ها هو "جواد" يهم لاقتحام المنزل بتأنٍّ وهدوء، "كن له عوناً يا رب وأعمِ عيون أعدائه" توسلت وهي تراه يصل إلى الباب، ويطلق سيل رشاشه عليهم.
علا الصراخ والنحيب، دخل جواد، مرّت لحظات وكأنها أطول من دهر، لا شيء سوى رشقات وعويل، ماذا حدث؟ أين أنت يا جواد؟ كانت تنتظر في توتّر وقلق. وفجأة سمعت زقزقات صوته تعلو من داخل المنزل: "رأسه تحت قدمي، أنا داعس على رأسه؟
- من هو يا جواد، بالله عليك أخبرني؟
علا نبض صوته متصاعداً: ومن غيره؟!، الضابط الإسرائيلي رأسه تحت قدمي.
- هلا أتيتنا برأسه؟
- رأسه فقط؟!. لقد أجهزت على أربعة وانتظروا المزيد.
يبدو أن هناك مواجهة حامية تدور بالقرب من أحد المنازل في حي الدبش. أسرعت إلى هناك لتقف على مشهد آخر من مشاهد البطولة الفذة: مجاهدان اثنان في المنزل وفرقة معادية في وضع هجومي لاقتحام المنزل. "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة"، قالت وهي تضع يدها على قلبها، تسلل جنود العدو إلى المنزل، ماذا سيحصل يا ترى! رشقات لا تهدأ، ظلّ قلبها ينبض بقوة وهي تنتظر إلى أن هدأت المعركة، ساد سكون عميق، من سيخرج يا ترى؟ ها هي تسمع أصوات أقدام تنزل مهرولة على الدرج، يا الله، صاحت وكأن الروح ردّت إليها من جديد، المجاهدان يحملان جنديّاً يتدلى الموت من أطرافه، يضعانه أرضاً على التراب، يحفران قبراً يدفنانه فيه ليحتفظا به أسيراً. وما هي إلا لحظات حتى انصرف المجاهدان قبل أن يصبّ العدو نار غضبه وانتقامه على المكان بقصف جنوني زلزل التراب الذي تناثر كاشفاً عن قدم الجندي المدفون.
"يا رب"، رفعت يديها عالياً إلى السماء تدعو للمجاهدين الذين يخوضون على أراضيها مواجهات ضارية في كل حدب وصوب على إيقاع هدير طائرات الاستطلاع ودوي القذائف والغارات، قرب الساحة وبين البيوت وفي الأطراف. لقد جن جنون العدو فمنذ أيام وهو يحاول جاهداً كسر هامتها ليتربع مسيطراً على قمتها، لكنه لم يستطع أن يرفع رايته الممرّغة في وحول الذل والإنكسار. "مارون يا مرفوعة الراس" سمعت صوتاً شجياً يناديها،إنه صوت جارتها بنت جبيل: "ها قد حان دوري يا رفيقة الدرب. سأكون لهم بالمرصاد ومعي عيناثا ويارون وعيترون، سأزلزل الأرض تحت أقدامهم، وسأطبع على جبينهم وصمة الهزيمة والعار إلى أبد الآبدين". اغرورقت عيناها بدموع الفرح، فعالياً مرفوع رأسها في كبد السماء بصورتها التي ضمت بين أطرافها معالم التحدي والصمود، ومشاهد الجهاد والمقاومة، وزنود الفخر والبطولة.
لم يعد اسمها مارون الراس وحسب، بل هي مارون الراس التي شيّبت رأس المحتل، وأبكت جنوده المذعورين خلف أقنان الدجاج في "افيفيم"، هي رفيقة درب المجاهدين، وأم الشهداء: محمد دمشق (جواد عيتا)، وسامر نجم، وموسى فارس، وعلي الوزواز، ومحمد عسيلي، وحسن كرنيب، وهاني علوية، الذين حرسوا القمة وفاضت أرواحهم من على ترابها. ... وظلّ منهم من ينتظر.