هلا ضاهر برق
رفعت "يُسرا" غطاء البئر فتسربت إلى أنفها رائحة الرطوبة، وراحت تدلي بدلوها نحو القاع، وبعدما ملأته بالماء تراجعت خطوتين إلى الوراء وأخذت نَفَساً عميقاً ثم أحنت ظهرها وبدأت تشد الحبل المجدول بكل قوتها. في تلك اللحظة سمعت صوت أحدهم ينقر بأصابعه على مذياع الجامع استعداداً لإذاعة خبر ما... أفلت من يدها الغطاء الحديدي فأخرج الارتطام صدىً مدوياً بين جدران البئر.
خفضت ضوء قنديل الكاز ثم وقفت خلف باب الدار تسترق النظر من ثقوبه لكنها أخفقت في معرفة ما يجري فالأزقة يلفُّها وشاح الليل الأسود خالية إلا من ظلال الأشجار المتراقصة مع ضوء القمر. لم يطلِ انتظارها فما لبث أن خرج صوت بطيء وأذاع تعميماً على أهالي القرية يقضي بمنع التجول بعد مغيب الشمس بساعة واحدة ومنع إنارة الضوء بعد التاسعة مساءً. ولكن الخبر الذي وقع على قلبها كالصاعقة، هو قرار بإغلاق المعبر حتى إشعار آخر...
لم تجد كلاماً لتقوله فالخبر اغتيال لكل أبجديتها. وغرقت في أفكارها غير عابئة بما يجري حولها، تتذكر كم عانت لتحصل على تلك الورقة المسمّاة تصريح العبور من الشريط المحتل.. يومها وقفت في الهواء القارس على الجهة المقابلة للحاجز ست ساعات وتنتظر إشارة من العميل المجند لتتقدم مسرعة إلى مكتب مسؤول العملاء وتغادر بعد حصولها على توقيعه... لا بدّ من العبور إلى بيروت بعدما أبلغها طبيب القرية المجاورة أن الدواء الذي تحتاج له والدتها غير متوفر في القرية، وعدم حصولها عليه سيؤدي إلى تطوّر حالة والدتها المرضيّة...إغلاق المعبر ليس له سوى معنىً واحد. فكلما نفّذت المقاومة عملية ضد العدو وعملائه أو كلما قتلت أحد رموزهم، تُتخذ تلك التدابير.
عادت إلى الغرفة داخل الدار تحدّث نفسها: "لن أدع هؤلاء العملاء يتحكمون بمصير أمي، سأغادر إلى بيروت حتى لو قتلوني..." قبل أن تعود لتمدد جسدها النحيل على الفراش الملقى في الزاوية بالقرب من أمها. ثم رفعت رأسها ونظرت إلى وجهها الشاحب فيما أمسكت بيديها البارزتي العروق وراحت تمسح دموعها المتلألئة على وجنتيها... استقرّ رأسها على الوسادة وطال سهرها من القهر، إذ كانت تقطع صمت الليل بتأوهات صغيرة كلما سمعت أمها تتلوى من الألم. وشعرت بالندم الشديد لرفضها التعاون مع رجال المقاومة خوفاً من العملاء فهي تعرف جيداً أن مصيرها سيكون الذهاب إلى معتقل الخيام فيما لو اكتشفوا أمرها...
لم تنسَ ظهيرةَ يومٍ كانت شمسُه لاهبة. وبينما كانت تعمل في الحقل سمعت صوت الأغصان اليابسة تتكسر تحت أقدام حذرة قادمة من عمق الأراضي المحتلة، عندها رفعت رأسها فأبصرتهم بينما كانوا يتخطون الشريط الشائك، فسألت الأرض عنهم فأخبرتها أنها باتت تعرفهم من وقع أقدامهم، فصارت تنتظرهم كلما زمجر الرصاص... وقبل أيام اختلف المشهد عندما طلب منها أحدهم أن تتعاون معهم. ولا تدري كيف عرف بأنها تسعى للحصول على تصريح المغادرة للعبور إلى بيروت، فكل ما قاله: "إن المهمة بسيطة والمطلوب منها أن تتسلم رسالة تحتوي على رموز مشفّرة وبدورها ستنقلها لهم" فولّت هاربة وكان هذا الجواب الوحيد الذي تلقاه منها. لن تغفر لنفسها أبداً.
وبعد أيّام... اصطفّ رتل من السيارات أمام حاجز الاحتلال عند المعبر المؤدي إلى القرى الحدودية، وعلى مقعد السيارة الأولى جلست يُسرا، وبين يديها علبة الدواء وصورة أمها لا تفارقها. مرت دقائق معدودة قبل أن يشاهد السائق أحد الجنود يعطي إشارة الإذن بالمرور. تنفست الصعداء وهي تمسك بيديها علبة الدواء بشدة، بأناملها المرتجفة، وكأنها شخص عزيز تخشى فقده. غادرت يسرا السيارة باتجاه الحقل وقدّمت لأحد المقاومين ورقة أخرجتها من علبة الدواء، وعادت أدراجها لكنها لم تدخل إلى منزلها، بل تلفتت يمنة ويسرة، قبل أن تعبر إلى كرم الزيتون وهناك جلست تحت جذع إحدى الشجرات وأمسكت بين يديها ذرات التراب حيث دفنت والدتها سراً في هذا المكان ثم أخذت تبكيها بصمت وتعاهدها أنه سيأتي يوم وتعلن وفاتها، لكن ليس الآن، ليبقى الدواء ذريعة عبورها لإحضار الرسائل لأبطال أخذوا على عاتقهم مهمة تحرير الأرض. وعندما يتحقق الحلم ستنثر الورود على قبرها وسوف تمسح دموعها بمنديل الحرية.