الشيخ تامر محمد حمزة
صنعوا التاريخ وأضحوا عنواناً للقدوة لكل من جاء بعدهم، هم حقيقة التاريخ, وهم الكبار الذين شمخت أسماؤهم فيه, منهم الذين ثبتوا حيث تزلزل بعضهم.. ونطقوا حين تعتع غيرهم.. ونصروا حيث خذل وتخاذل آخرون.. لم يستوحشوا من القلة في طريق الهدى أعني المقداد بن الأسود الكندي وسلمان الفارسي وأبا ذر الغفاري وعمار بن ياسر وقد جمعهم صدق ولائهم لمحمد صلى الله عليه وآله وآله الأطهار فهم بحق حواريو النبوة والإمامة.
* المقداد بن الأسود الكندي
هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك البهرواي المعروف بالمقداد بن الأسود, وهذا الأسود الذي ينتسب إليه هو الأسود بن عبد يغوث الزهري, وإنما نسب إليه لأن المقداد حالفه فتبناه الأسود وكنيته أبو مسعد وقيل أبو الأسود(1). يعتبر المقداد من السابقين الأوائل إلى الإسلام ومن أوائل المهاجرين إلى الحبشة. وقد قال فيه أمير المؤمنينعليه السلام في يوم بدر: "ما كان فينا فارس يوم بدر إلا المقداد على فرس أبلق"(2). وقبل بدر سجلت له مواقف أصبحت مضرب مثل، حيث قال المقداد للرسول صلى الله عليه وآله:"والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد فعلنا، فشأنك يا رسول الله!" فندب النبي صلى الله عليه وآله أصحابه وانطلق بهم حتى نزل بدراً(3).
* المقداد حب الله ورسوله
ليس من السهل أن يكون المرء محباً لله ولرسوله وأصعب منه أن يصبح المرء محبوباً عند الله ورسوله.. وأصعب من الاثنين أن يطلق على المرء أنه عين الحب لله ولرسوله ويدل على ذلك ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله أنه قال: "إن الله عزّ وجلّ أمرني بحب أربعة من أصحابي وأخبرني أنه يحبهم فقيل من هم؟ فقال: علي والمقداد وسلمان وأبو ذر"(4). وكذلك جاء عن القاضي النعمان المغربي بأن المقداد قاتل في بدر وأحد ولُقب بـ (حب الله وحب رسول الله)(5).
* المقداد من الأوائل
جاء في الخبر على لسان الإمام علي عليه السلام أنه قال: أول من هشم من العرب جميعاً جدنا هاشم وأول من عرقب جعفر بن أبي طالب ذو الجناحين في يوم مؤتة وأول من ارتبط فرساً في سبيل الله تبارك وتعالى المقداد بن الأسود الكندي(6).
* المقداد مصداق آية
مودة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله هي مادة الاختبار والفيصل بين من أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله على سؤاله ومن نكص على عقبيه، وبين من أدى حقه ووفّى به وبين من نقض وتخلف، والمقداد وهو من جملة الأوفياء السبعة ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه أنه لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: 23) قام رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: أيها الناس إن الله تبارك وتعالى قد فرض لي عليكم فرضاً فهل أنتم مؤدوه ؟ قال : فلم يجبه أحد منهم , فانصرف.
فلما كان من الغد قام فيهم فقال مثل ذلك, ثم قام فيهم فقال مثل ذلك في اليوم الثالث فلم يتكلم أحد, فقال: يا أيها الناس إنه ليس من ذهب ولا فضة ولا مطعم ولا مشرب, قالوا: فألقه إذن، قال: إن الله تبارك وتعالى أنزل علي ﴿قُل لا أَسألُكُم عَلَيهِ أَجراً إلّا المَوَدَّةَ فِي القُربَى﴾ فقالوا: أما هذه فنعم, فقال أبو عبد الله: فو الله ما وفى بها إلا سبعة نفر, أحدهم المقداد بن الأسود(7).
* كراماته عند مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام
إنّ الله تعالى يرضى لرضى فاطمة ويسخط لسخطها, فطوبى لمن يرضيها ومن ترضّى عنه, ومن هؤلاء السعداء الفائزين بحبهم لفاطمة عليها السلام وحب فاطمة عليها السلام لهم المقداد الكندي ويشهد لذلك عدة وقائع منها:
أ- شهادته على وصية سيدة نساء العالمين عليها السلام:
وقد جاء في الوصية هذا ما أوصت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله بحوائطها السبعة: ذي الحسنى, والساقية, والدلال, والغراف, والرقمة, والهثيم, وما لأم إبراهيم إلى علي عليه السلام ومن بعد علي عليه السلام إلى الحسن عليه السلام ومن بعد الحسن عليه السلام فإلى الحسين عليه السلام ومن بعد الحسين عليه السلام فإلى الأكبر من ولدي, شهد الله على ذلك وكفى به شهيداً وشهد المقداد بن الأسود والزبير بن العوام وكتب علي بن أبي طالب(8) عليه السلام.
ب- المقداد أحد المكرمين بالصلاة على جثمان فاطمة الزهراء عليها السلام:
إن السرية التامة التي أحاطت تجهيز ودفن سيدة نساء أهل الجنة نتيجة الظروف القاسية والمصائب التي حطت رحالها في بيت أمير المؤمنين عليه السلام دفعته إلى دفنها ليلاً وسراً تنفيذاً لوصيتها المباركة لكيلا يصلي عليها بعض الناس ومن هنا فإن الصلاة على جثمانها كانت كرامة لمن أُذن لهم بالصلاة وكانوا سبعة أحدهم المقداد بن الأسود.
* أعظم الناس إيماناً
إن التفاوت بين أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام حاصل لا محالة في الوقت الذي هم جميعاً ناصروه ولكن للمقداد مواقف متقدمة بين أقرانه بين يدي الإمامة والولاية، فعن الإمام الصادق عليه السلام: لم يتغير [المقداد] منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله حتى فارق الدنيا طرفة عين لم يزل قائماً قابضاً على قائم السيف عيناه في عيني أمير المؤمنين عليه السلام ينتظر حتى يأمر فيمضي(9). وقال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: كان المقداد أعظم الناس إيماناً تلك الساعة(10). وقال الإمام الصادق عليه السلام: "ما بقي أحد بعدما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله إلا وقد جال جولة إلا المقداد فإن قلبه كان مثل زبر الحديد"(11).
وروي عن أبي وائل قال: كنت بالمدينة فدخلت المسجد... وسمعت المقداد يقول: أهل البيت عليهم السلام معدن الفضيلة ونجوم الأرض ونور البلاد والله إن فيهم رجلاً ما رأينا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وهو أولى بالحق وأقضى بالعدل ولا آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر من علي بن أبي طالب(12) عليه السلام.
* منزلة المقداد
كفى المقداد بن الأسود الكندي أن يجري اسمه على لسان النبي صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام والأئمة عليهم السلام من بعده ويُنعت بكلمات كتبت بماء الذهب، بل هي أشرف وأكمل من الذهب نفسه، ومنها ما قاله الإمام الصادق عليه السلام في حقه: "إنما منزلة المقداد بن الأسود في هذه الأمة كمنزلة ألف في القرآن لا يلزق بها شيء"(13).
وقد توفي رضوان الله عليه في المدينة عام 33 هـ(14) وقيل في جرف على ثلاثة أميال منها وحُملت جنازته إلى البقيع(15).
(1) أسد الغابة، ج 4، ص 409، والطبقات، ج 3، ص 115.
(2) ميزان الحكمة، ج 4، ص 2860.
(3) مسند أحمد ابن حنبل، ج 3، ص 219.
(4) الاستيعاب، ابن عبد البرّ، ج2، ص 451
(5) شرح الأخبار، النعمان المغربي، ج 2، هامش ص 214.
(6) مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 8، ص 302.
(7) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 22، ص 322.
(8) م.ن، ج 43، ص 185.
(9) م.ن، ج 28، ص 260.
(10) الاختصاص، الشيخ المفيد, ص 11.
(11) م.ن.
(12) شرح الأخبار، م.س، ج 3، ص 10.
(13) الاختصاص، م.س، ص 8 11.
(14) الاستيعاب، م.س، ج 2، ص 451.
(15) مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي، ج 5، ص 212.