نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

شهيد الوعد الصادق الشيخ حسن عبد الكريم المقداد


نسرين إدريس‏

شهيد الوعد الصادق سماحة الشيخ حسن عبد الكريم المقداد (الشيخ راغب)

اسم الأم: نظميَّة الحاج علي المقداد.
محل وتاريخ الولادة: فرون، 1- 1 - 1969م.
الوضع العائلي: متأهّل وله 3 أولاد.
مكان وتاريخ الاستشهاد: صور، 5 - 8 - 2006م.

تضوع أنفاسه في المحراب، تحكي حكاية العروج المقدّس، وجبهته الممهورة بآثار السجود، والتي حملتْ أثر رصاصة القنص، رفعها باسماً نحو السماء: "فزت ورب الكعبة".. وكيف لا يفوز الفوز العظيم، من وفقه الله ليكون من رجال الوعد الصادق؟ رجال صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه.. صاحب العمامة البيضاء الناصعة كقلبه، والبسمة المتفائلة في زمنٍ حملت زواياه عناكب اليأس، لم ينتظر الفجر ليؤدي صلاة الصبحِ الأخيرة، فكانت صلاة الليل المعراج الأخير، وسلاحه الملقّم يتحرقُ شوقاً للضغط على الزناد.

كان يرهفُ السمعَ، والهدوء أبعد ما يكون عنه في مكان تسقط القذائفُ كصيّب من السماء. لكن ضجيج الحرب الصاخب لم يمنعه من إرهاف السمع ليستأنس بلحظات الانتظار. كانوا أكثر من مئتي جندي إسرائيلي، رمتهم الطائرة في محاولة إنزال فاشلة في مجمع الرز في مدينة صور، حيث دارت مواجهة لن يستطيع أحد أن يعرف ضراوتها، ولا ما حملت من أسرارٍ زخرت بها حرب تموز 2006، ولكن الأكيد أن رصاصة القنص التي سكنت جبهة سماحة الشيخ المجاهد، بيّنت عجز الجنود عن الوصول إلى مبتغاهم، وأن الطريق الوحيد لهم كان الانسحاب، وقنص المجاهدين الذي قاتلوا حتى ما بعد الرمق الأخير من بعيد. وعندما وقع سماحة الشيخ على الأرض شهيداً بين ذخيرته الفارغة، كتب بدمه القاني الدرس الأخير للذين رافقوه طوال حياته؛ لعائلته، وللناس، وللمجاهدين..

من مسجد الإمام القائم عجل الله فرجه في صور، إلى مجمع الرز، إلى القرى المحيطة، إلى كل الجنوب الذي عاش في قلبه، ولم يسمح لأي شي‏ء أن يبعده لحظة واحدة عن ترابه، صُوَرٌ ومشاهدات لسماحة الشيخ لا تُنسى. ولن يعرف النسيان طريقاً ناحيته، فهو يزداد حضوراً بعد استشهاده، وإن كان بعيداً. فأسلوبه في التعاطي مع من حوله، ودروسه وأخلاقه تُترجم في سلوك ذاك المجتمع الوفي له بعد الاستشهاد كما في الحياة. فعندما اشتدت ضراوة حرب تموز 2006، رفض سماحة الشيخ مغادرة منزله في مجمع الرز، فخلع الجبة والعمامة البيضاء، ليبدأ بخدمة الناس الصامدين هناك، فهو حيناً يطهو لهم ويوزِّع الطعام عليهم، كما كان يفعل للإخوة في الدورات الثقافية، وحيناً آخر يجلب لهم ما يحتاجونه، متفقداً الجميع. ولكنه قرر المغادرة فجأة وقال للناس إن العدو الصهيوني يستهدف علماء الدين، وهو رجل معروف في صور، فأراد المغادرة حفاظاً على حياتهم، فلحقته امرأة وتبعها آخرون، وهم يقولون: "شيخ حسن إما أن نحيا معك أو نموت معك"..

وكيف لا يفعلون ذلك وقد عرفوا معنى الحياة بالقرب منه؟ لقد رأوا فيه النموذج الحقيقي للرجل الرسالي، عاش بينهم متواضعاً خدوماً، لم يخجل يوماً من القيام بأي خدمة، وإن كانت صغيرة والعمامة على رأسه، بل تنقّلَ فيما بينهم يحمل همومهم والشكوى، ويخفف عنهم ويؤازرهم، فكانوا يلقبونه ب"الشيخ المتفائل"، حتى أثناء العدوان، بقي متفائلاً، فساعد وجوده الناس على الصمود والبقاء. الحرص العجيب عنده على أدق التفاصيل في الحياة، لم يكن وليد ساعة، بل هو نتاج تربية سنوات طويلة كان سماحة الشيخ يبني فيها روحيته منذ صغره. فقد توفى الله والده وهو في العاشرة، فبدأ بمساعدة والدته في كل شي‏ء.

كان يقطف التبغ معها ويساعدها في المنزل، فعُرف بصديق أمه ويدها اليمنى. وعندما نجح في السنة الثانوية الثالثة، انتظر الجميع منه أن يكمل دراسته الجامعية في كلية العلوم كما كان مقرراً، ففاجأ الجميع باتخاذه لقرار الالتحاق بالحوزة العلمية. وقد جرّب المقربون منه ثنيه عن هذه الخطوة، خصوصاً وأنه الشاب الذكي المعول عليه، ولكنه مشى بخطى ثابتة نحو الحوزة، ليكون طالباً للعلوم الدينية بدايةً ومدرساً فيما بعد. وطوال فترة وجوده في الحوزة، لم يعلم أحد أنه بموازاة ذلك أهّل نفسه عسكرياً، حتى زوجته وجدت شهادات مشاركاته في الدورات العسكرية بعد استشهاده. فهو كان حريصاً كل الحرص على سرية ما يقوم به من جهة، ومن جهة أخرى يداري مشاعر زوجته فلا يخبرها عن الشهادة بشكل مباشر، ولكنه يكرر أمامها دوماً جملة: "لن تستطيعي الوقوف بوجه قضاء الله".

لم يطلب سماحة الشيخ الخدوم جداً خدمة من أي أحد، حتى لو مُجرد أن يُناوَل كوباً من الماء. فكان يقوم بكل شي‏ء بنفسه، وإذا ما اضطر لإصلاح أي شي‏ء في المنزل أو في السيارة كان يبقى لمساعدة العامل من جهة، ومن جهة أخرى حتى يقوم بالعمل بيده. لم يهمه يوماً أي مظهر من مظاهر الدنيا، ولم يقبل أن يقتني من الملابس إلا ثوباً أو ثوبين، حتى لا يُسأل عن الثالث يوم القيامة. ولكن تواضعه وابتعاده عن زخارف الدنيا لم يمنعا أن يكون من المتشددين للأناقة والنظافة، فزملاؤه عندما يرونه، يقولون له: جاء الملاك "المهفهف". وعلى الرغم من ضغط العمل والدراسة، فإن ذلك لم يمنعه من متابعة الأمور الصغيرة قبل الكبيرة الخاصة بأولاده، وبأهله، وأيضاً بجيرانه الذين كان ملاذهم.

تعرَّض سماحة الشيخ لأربعة حوادث في السنة الأخيرة، كانت نجاته منها بأعجوبة، أحدها عندما أصرَّ أهله وزوجته عليه لشراء سيارة جديدة، فاشترى واحدة، ولكن ما إن وصل بها أخبرهم أنه لن يقودها ولما سألوه عن السبب، أجابهم: "إنها من مظاهر الدنيا"، فألحَّوا عليه خصوصاً أنها ليست فخمة، وبعد فترة قصيرة تعرَّض أثناء قيادتها لحادث مروع لم يصدق أحد أن من بداخلها لا يزال حياً، فتركها منذ ذلك الوقت، طالباً ممن حوله أن يعينوه على الابتعاد عن الدنيا: "إننا في حزب الله لسنا طلاب دنيا، ولسنا طلاب جاه ولا مال، أنظروا إلى شبابنا لتروا إنهم غير قادرين على بناء مساكن لهم، نحن طلاب آخرة، ولو خيرنا بين أن نعطى الدنيا وما فيها وبين اللحاق بالإمام الحسين عليه السلام لفضلنا اللحاق بالإمام الحسين عليه السلام".

تلك الدنيا التي كان يسعى إلى تصغير حجمها بالقدر المستطاع، حتى أنه في الفترة الأخيرة من حياته، لم يعد يستطيع النوم لسبب مجهول، ولم يستلذ بأي طعام حتى الذي يحبه. جرّبت زوجته إقناعه بالذهاب إلى الطبيب، خصوصاً وأنه مريض بالسكري، فرفض ذلك. وكان قبل هذا الوقت في زيارة الإمام علي الرضا عليه السلام في إيران، وقد وفقه الله دوماً للوصول إلى المرقد في حين أن من معه لم يستطيعوا الوصول إلى مكان قريب منه، فطلب إليهم أن يقفوا بصدقٍ وإخلاص عند عتبة الإمام عليه السلام ويطلبوا إليه أن يساعدهم على الوصول، ولسوف يجدون أنفسهم يمسكون بالمقام. عندما أسرت المقاومة الإسلامية في 12 تموز جنديين إسرائيليين وشنّت الدولة العدوة الحرب، فرح سماحة الشيخ وبشّر من حوله: "النصر لنا.. غداً سترون.. الله يحفظ السيد حسن"..

بدأت الحرب، وكأنها لا تعنيه، فأكمل حياته بشكل طبيعي، يسأل عن أحوال الناس ويخفف عنهم، ولكن لا شك، وأنه منذ اليوم هيأ سلاحه، وصار في الليل حارساً للوطن، وفي النهار، وفي أصعب المواقف التي لا يستطيع أحد فيها التنقل، كان كعصفور الخير ينتقل من مكان إلى آخر، يتحدث مع الخائفين ويقوي عزيمتهم، ويتناقشُ مع الصامدين بأمور صمودهم، والرصاصُ في بندقيته يغازل صمته. وجاء غربان الليل في محاولة يائسة لقطف برعم انتصار من مجمع الرز، فلم يعودوا إلا بالخيبة، بعكس سماحة الشيخ الذي جاء الرد ايجابياً على طلبه في مرقد الإمام الرضا عليه السلام في المرة الأخيرة حيث دعا الله بصدقٍ أن يرزقه الشهادة.

وانتقل في لحظة إلى حيث رفيقه هيثم دبوق، ليجلس بالقرب منه في الآخرة بعدما كانت صورتاهما متجاورتين دوماً في الدنيا. من كلماته: "هذه المسيرة هي امتداد لمسيرة صاحب الزمان عجل الله فرجه، امتداد لنهضة عاشوراء ولا يمكن لأحد أن يوقفها، لأنها سقيت من عرق الرسول صلى الله عليه وآله وأذكى وأطهر دم، من علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الحسن إلى كل إمام وشهيد، من أحمد قصير إلى الشيخ راغب والسيد عباس والشيخ أبي ذر وملاك وأبي زينب والحر العاملي وهيثم..".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع