نسرين إدريس قازان
شهيد الدفاع عن المقدّسات الشيخ يوسف غازي المقداد (فداء علي)
اسم الأمّ: خديجة حسن.
محلّ الولادة وتاريخها: عين الغويبه- جبيل 9/4/1983م.
الوضع الاجتماعيّ: متأهّل.
مكان الاستشهاد وتاريخه: لاسا- جبيل 22/4/2014م.
لم يدرك أحد سبب اتّخاذه قرار ترك كلّ شيء، والتفرّغ لتأسيس عملٍ إسلاميّ يسهم في مذهبة أبناء قريته النائية، التي لا يقصدها في الصيف إلّا القلّة، فما بالك في الشتاء، حيث يسكنها الصقيعُ والريح، وعشرات من تلك القلّة؟
إنّها قريته، التي كانت تفتقد لكثير من الخطط والمشاريع، على المستوى الإنسانيّ والاجتماعيّ، والخدمات العامّة، إلّا أنّها كانت بمنزلة مشروع وهدف بعيد كلّ البعد عن الدنيا ومناصبها، فلم يكن يسعى من وراء ذلك لأيّ جاهٍ اجتماعيّ أو حزبيّ، بل امتطى التواضع والزهد صهوة؛ ومن تواضع لله رفعه الله. لقد أراد أن يزرع الزرع الذي لا يذبل ولا يموت، حتّى لو غاب زارعه. وقد حاول كثيرون ثنيه عن قراره، من أجل العودة إلى العمل في مكتبه، حيث الأجواء المريحة، إلى جانب مهمّته في التدريب، التي أخذت جلَّ وقته، ولكنّه كان يجيب بابتسامته الرقيقة الهادئة بثباته على موقفه.
•وعيٌ مبكّر
لم يكن الوصول إلى تلك الروحيّة إلّا نتيجةً لسلوكه المميّز منذ صغره؛ فهو قد وُلد وتربّى في بيئةٍ متديّنة مقاومة. وعلى هدوئه اللافت في صغره، اتّخذ منحى دينيّاً واضحاً؛ فكان يقصد المسجد عند كلّ صلاة، والتحق بالدورات الثقافيّة مبكّراً، ثمّ قرّر متابعة الدراسة الحوزويّة، فدرس الدين ودرّسه. وبموازاة بناء شخصيّته العلميّة، تبلورت شخصيّته العمليّة؛ فالتحق بصفوف المقاومة، وتدرّج حتّى صار مدرّباً. وكان استغراقه في التفكير والتفكّر بعمله لافتاً جدّاً؛ إذ لم يترك قصاصة ورقٍ تنجو من خططه وبياناته.
•العائلة أولويّة
أحبّ الشيخ يوسف الأطفال كثيراً، وأولاهم اهتماماً خاصّاً، وكان ذلك مستغرباً من رجلٍ يتعبُ كثيراً، ولكنّه لم يسمح للتعب أن يسلبه اللّعب مع ابن جيران أو ابن قريب، ولاحقاً أولاده، وكأنّه أراد أن يحوّل محبّة الأطفال له إلى ذكرى تدفعهم دوماً إلى السير في الطريق الذي اختاره.
وعلى الرغم من انشغالاته الكثيرة، كانت العائلة هي الأولويّة في حياته. وإذا كان الوقت المتاح له بينهم قصيراً، إلّا أنّه كان يستغلّه بأقصى ما يمكنه؛ فكان يهاتف جميع إخوته ليجتمعوا معاً، تحت سقف منزل الأهل، في حضن أمّه التي تعلّق بها كثيراً مذ كان صغيراً، وتحت ناظريّ والده الذي رعاه.
•خدمة المستضعفين
خدمة المستضعفين هذا هو الهمّ الذي حمله، وكرّس آخر أيّام حياته لأجله؛ فكان يبحثُ عن الفقراء لمساعدتهم، والمتعبين لمعاونتهم، يطرقُ أبواب البيوت ليلاً، خصوصاً في بلدته؛ ليطمئنّ إلى دفء ساكنيها، ويسارع إلى تأمين ما ينقصهم، غير عابئ بليل ألقى بظلامه على الطرقات، ولا ببردٍ، ولا بتعب. لقد كان كالعصفور يتنقّلُ من مكانٍ إلى آخر؛ ليرفع همّاً، ويساعد في دفع بلاء، ويطمئن قلباً، ولو كان عابر سبيل.
ذات يوم التقت به عمّته في محلّة بئر العبد، وبينما هما يتبادلان السلام، لاحظت عدداً من أكياس الخضار والفاكهة يحملها على درّاجته الناريّة، فتساءلت في سرّها باستغراب: "أيعقل أن يخرج من عمله ليشتري الخضار؟"، وإذ يأتيها الجواب منه فجأة؛ إذ استمهلها ليوصل الأكياس إلى سيّدة مسنّة كانت تنتظره أمام أحد المباني!
هذا التعامل المحبّ والودود، جعله خلال فترةٍ زمنيّةٍ قصيرة كالقطب من الرحى، خصوصاً في قريته؛ حيث يقصده الناس أينما كان، يأنسون بحديثه عن الدين والتكليف الشرعيّ، وعن أهمّيّة حرب الدفاع عن المقدّسات، قد حوّل سهراته إلى منبرٍ توعويّ دينيّ وسياسيّ، تركت أيّما أثر في القلوب.
•مددٌ إلهيّ
منذ التحاقه بالحوزة، انضمّ يوسف إلى صفوف المقاومة، وخضع للعديد من الدورات العسكريّة، وشارك في الكثير من المهمّات الجهاديّة، أهمّها في حرب تمّوز؛ حيث تنقّل بين الضاحية والجنوب، وكان مسؤولاً عن مجموعة من المجاهدين. في أثناء الحرب، ذهب مرّةً إلى منزله في حارة حريك لينجز عملاً سريعاً، ولكنّه فجأةً، ترك كلّ شيء، وغادر المبنى الذي دُمّر بعد خروجه منه مباشرةً! وكأنّ حدسه أنبأه أنّ مكروهاً ما سيقع! وهذا ما كان يحصل معه في سوريا أيضاً في أثناء مشاركته في حرب الدفاع عن المقدّسات؛ إذ كان فجأةً يطلب من المجموعة الانتقال من مكان إلى آخر، وما إن ينتقلوا، حتّى يُستهدف مكانهم! ولطالما قال لمن حوله إنّ المدد الإلهيّ وعون أهل البيت عليهم السلام ملموسٌ في تلك الحرب. وقد نقل لأحد أقاربه، أنّهم كانوا يشعرون بحضور حضرة صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف معهم في الجبهة، وكان ذلك الشعور يعطيهم الاندفاع والقوّة، ويزيد في شجاعتهم.
•محبٌّ مِقدام
المحبّة التي يتّصف بها يوسف، رافقته أينما حلّ. وقد كان مُحبّاً ومؤثّراً في الآخرين بدرجة كبيرة ولافتة. وأينما حضر في المحاور الجهاديّة، كان خادماً للقوم؛ يُحضّر الطعام، ويؤمّن حاجات المجاهدين، ويثبّت من عزيمتهم بكلامه المؤثّر. في إحدى المرّات، مرض مجاهد خلال المعارك في سوريا، فقسّم يوسف وقته بين عمله وبين الاهتمام به، وصار يعدّ الطعام المفيد له، رغم قلّة إمدادات الطعام والخيارات المتاحة.
•وكأنّه الوداع
الشهادة في سبيل الله هدف لم يُخفِه الشيخ يوسف يوماً عن أحد، لا عن والدَيه ولا عن أخواته، ولا عن زوجته، ولا حتّى عن أطفاله. فلا تكاد تخلو جلسة معهم إلّا وذكّرهم بأن يتجهّزوا للالتحاق بركب عوائل الشهداء، لطالما أوصى زوجته بالانتباه إلى كلّ تفاصيل العفّة والصبر عند سماعها خبر استشهاده. أمّا ابنته الكبرى التي أجلسها في حضنه ليلاعبها قبل استشهاده بثلاثة أيّام، وراح يمسح على رأسها كما يُمسح على رأس اليتيم، فقد همس لها أنّها ستكون عمّا قريب ابنة شهيد، فالتفتت أخته ناحيته مستغربةً، وقد خفق قلبها قلقاً، خاصَّة بعدما اتّصل بها باكراً طالباً منها القدوم من صيدا حيث تقطن، لقضاء يومٍ عائليّ معه، كما كان يحبّ دائماً.
هل كان يعلمُ أنّه اللقاء الأخير، ولهذا ألحّ عليهم جميعاً على مرافقته إلى القرية؟! الله العالم.
•موعد الرحيل
في أيّامه الأخيرة، بان البِشر في وجه يوسف، وتكرّرت المواقف التي ذكر فيها قُرب رحيله، وطلب من أمّه الثبات والصبر إن استشهد، وقد وكّل أمر أمّه إلى السيّدة زينب عليها السلام، لتُنزل الصبر على قلبها.
وكان ذلك اليوم، الذي اطمئنّ فيه إلى حال الجميع عبر الهاتف، قبل أن يتوجّه إلى مهمّة مطلوبة منه، تعرّضت خلالها سيّارته لحادث قويّ، رفعه إلى علّيين، هناك، حيث الشهداء من رفاقه ينتظرونه. فسلام عليه يوم ولد، ويوم حمل بيديه ثقل المساعدات والمعونات ليلاً، ويوم استشهد، ويوم يعود مع صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف حيّاً.