هلا ضاهر
خفق قلب الشمس ناشراً دفئه على أوراقي الخضراء، فيما هبّت نسمات خفيفة جعلت أغصاني تنحني تواضعاً لها. أما أنا فأجلس مكاني عند حافة النهر، وكلما ازداد عمري ازددت شموخاً وتشبثاً بالأرض، وبجواري الكثير من أشجار الصفصاف التي توقظ بحفيف أوراقها عصافير اتخذت من حضني مأوىً لها فتزقزق داعية صغارها لمغادرة الأعشاش طلباً للرزق... ما أقسى قلبك أيها الحطّاب. حين أتيت ذلك الصباح على حين غفلة وأخذت تحدق بي بعينين مخيفتين ثم قبضت على عنقي بفأسٍ محددة ودست بقدميك على وريقاتي متجاهلاً نزفي لقطرات الندى، ثم لم تلبث أن عدت مرة أخرى فخلتك نادماً تائباً وإذا بك تقطعني إرباً إرباً لتطعم حبات قلبي للنار في الموقد أو تجعل من ضلوعي مائدة خشبية...
مع قدوم الليل حملني الحطّاب إلى شاحنته وسار بي إلى جهة مجهولة. وحين وصلنا إلى كوخ صغير أشبه بمخزن خردة تركني في زاوية منه وغادر بعدما أطفأ السراج. استسلمت لقدري ساهرة وحيدة مع أشباح الليل، متوجسة فيه من صباح أفتقد فيه قرقعة الأحجار تحت أقدام فتية لن يتمكنوا من تعليق حبال أرجوحتهم على كتفي بعد اليوم...
مع اقتراب الفجر تسلّل ضوء أزرق خفيف من ثقوب الكوخ فيما سمعت وقع أقدام تخترق صمت المكان، ثم أخذت تتسارع إلى أن اقتربت من باب الكوخ وفتحه أحدهم وبدأ يناول رفاقه في الخارج صواريخ وضعت بعناية شديدة داخل صناديق خشبية.
وسمعت أزيز الطائرات الذي يصمّ الآذان إثر كل غارة معلنة أيام تموز بداية العدوان...
شعرت بملامس حياة جديدة تنتظرني بعدما تعاهدوا على مسمعي أن يثأروا لقراهم، ورأيتهم على أتم الاستعداد لصدّ أي محاولة تقدّمٍ للعدو.
صرت أعرف أوقاتهم ومهماتهم كميناً كميناً... عبوة عبوة... أعرف وقع أقدامهم وأشاطرهم الأتعاب والمسرّات.. فهذا خالد يتوضأ وهذا راني يجمع بعض المسامير في علبة معدنية ليمزجها مع مادة بيضاء ثم يوصلها بأسلاك نحاسية، أما هادي فمنهمك بتنظيف البنادق وملء مخازنها بالرصاص... ومضت الأيام وأصبحت القرية مهجورة إلا من جنود يتواجدون خفيةً. وبعد مضي ثلاثة وثلاثين يوماً عاد الصمت يلف المكان من جديد لكنني لم أعد وحيدة، برفقتي آثار لرجال مرّوا من هنا وغادروا ولم يعودوا. رقص قلبي بين ضلوعي وأنا أرهف السمع لخطوات تقترب. خطوات أعرفها جيداً، إنه أحدهم، لا أصدق أنه يقترب نحوي. أمسكني بيديه ثم غادر الكوخ. مجدداً لا أعرف وجهتي لكنني سعيدة. بعد مرور وقت قصير وصلنا إلى قاعة كبيرة. بدا صديقي خاشعاً خافضاً رأسه كأنه يحصي خطواته ثم وضعني على طاولة في وسط القاعة وأضاء من حولي عدداً من الشموع قبل أن يعلّق مجموعة من الصور على أطرافي الجريحة. وكانت عيناي تنظران من كوة تحت إبطه إلى أصحاب الصّور...
عجبت للشموع من حولي كيف تحرق نفسها لتضيء لزوار المكان في ذلك اليوم وقد مدت الشّمس أشعتها الأرجوانية. كان الدم القاني يسيل برفق إلى أعماقي المضمخة بالندى فتنسمت عبق الرياحين ليعود نبضي وعدت إلى الحياة بلا ماء ولا تراب، بل من شعاع نورهم فأورقت عوضاً عن كل صورة ورقة خضراء نضرة يفوح منها عطر أزكى من المسك. لقد أعادوا إلي الحياة. إنهم الشهداء.