الشَّيْخ معين دقيق
تعني عقيدة المهدوية: "التطلُّع الإنساني نحو يوم تسود فيه العدالة ربوع العالم ويزول عنه الظّلم والجور، وتتحقّق فيه الأهداف النهائية للإصلاح". هذه العقيدة فطرية جُبِل عليها الإنسان مهما تنوّع المكان والزمان اللذان يعيش فيهما. وقد ذكرنا في القسم الأوّل ثلاث خصائص للأمر الفطري: العمومية والشمولية، وعدم الحاجة إِلَى الكسب والتعلُّم، وأن إغفاله يؤدّي إِلَى إضعافه واضمحلاله. وهذه الخصائص تنطبق انطباقاً واضحاً على العقيدة المهدوية. وقد كنّا بصدد نقل كلمات أهل الملل والنحلّل؛ لندلّل من خلال ذلك على فطرية هذا الاعتقاد.
* المهدوية في الفكر الفلسفي
يقول المفكر البريطاني الشهير برتراند رسل: "إِنَّ العالم في انتظار مصلح يُوحّده تحت لواءٍ واحدٍ وشعارٍ واحدٍ". ويقول العالم الفيزيائي المعروف ألبرت آينشتاين صاحب نظرية النسبية: "إِنَّ اليوم الذي يسود فيه العالمَ كلّه السلام والصفاء، ويكونُ الناس متحابين متآخين ليس ببعيد". أما المفكر الإيرلندي المشهور برنارد شو، فقد بشّر صراحةً بحتمية ظهور المصلح، وبلزوم أن يكون عمره طويلاً يسبق ظهوره؛ بما يقترب من عقيدة الإمامية في طول عمر الإمام المهدي عجل الله فرجه؛ ويرى ذلك ضرورياً لإقامة الدولة الموعودة. قال في كتابه (الإنسان السوبرمان) وحسب ما نقله عنه الدكتور عباس محمود العقاد في كتابه (برنارد شو) في وصف المصلح بأنّه: "إنسانٌ حيٌّ، ذو بنية جسدية صحيحة، وطاقة عقلية خارقة. إنسانٌ أعلى يترقى إليه هذا الإنسان الأدنى بعد جهد طويل، وأنّه يطول عمُرهُ حتى ينيف على ثلاثمائة سنة، ويستطيع أنْ ينتفع بما استجمعه من أطوار العصور وما استجمعه من أطوار حياته الطويلة"(1). وعلى هذا الأساس اعتقد البوذيّون بأنّ بوذا هو المنقذ للبشرية من الآلام والمآسي. والزرادشتيون اعتقدوا بعودة بهرام شاه... والمجوس بأرشيدوا... والإسبان بملكهم رذريق الَّذِي قُتِل في غزو المسلمين لبلاد الأندلس... والمغول طبّقوا هذه المقولة على جنكيزخان... ولم يشذ قدماء المصريين والصينيين عن هذه العقيدة.
* المصلح عند الأديان السماوية
1ـ عند اليهود
من بنود العقائد اليهودية: ظهور مصلحٍ عظيمٍ، يخرج في آخر الزمن، فيقيم ما فسد من أخلاق الناس، ويصلح ما غيّرته القوانين والأنظمة الوضعية من طباع المجتمع. وقد تحدّث ابن القيّم عن هذا المصلح الذي ينتظره اليهود بقوله: "إنّهم أي اليهود ينتظرون قائماً من ولد داود النبيّ، إذا حرّك شفتيه بالدعاء ماتت جميع الأمم، وإنّ هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به"(2). وأمّا عن كيفية ظهور مصلح اليهود هذا، وعن منهجه الَّذِي يسير عليه، فقد وردت متطابقة في بعض تفصيلاتها مع عقيدة المسلمين في المهدي المنتظر عجل الله فرجه (3). وقد وضع اليهود في أسفارهم أمارات وعلامات لظهور المصلح الذي ينتظرونه. منها ما يظهر أنانية اليهود وحقدهم البالغ على جميع الأديان خصوصاً المسيحية، ومنها ما فيه دعوة إلى اليهود للاستيلاء على جميع ثروات العالم، حتى تكون الأُمم والشعوب خاضعةً لهم.
2ـ عند النصارى
أما عند النصارى فقد عانت الجمهرة المؤمنة من المسيحيين ضروباً شاقة وعسيرة من الجور والاضطهاد في زمن السيد المسيح عليه السلام وما بعده، فقد نزل بهم من البلاء ما لا يوصف في عهد نيرون سنة 64م، وفي عهد تراجان سنة 106م، وفي عهد ديسيوس سنة 249 ـ251م. وقد حدثتنا بعض الروايات الإسلامية بهذه المحنة التي نزلت بأتباع السيّد المسيح عليه السلام، فعن ابن مسعود أنه قال: "سألني رسول الله صلى الله عليه وآله: هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. فقال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام يعملون بمعاصي الله. فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهُزِم أهل الإيمان ثلاث مرات. فلم يبق منهم إلّا القليل. فقالوا: إنْ ظهرنا لهؤلاء أفنونا، ولم يبق للدين أحد يدعو إليه. فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى يعنون محمداً صلى الله عليه وآله فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسّك بدينه، ومنهم من كفر"(4). ومن منطلق ما ذكرنا من فطرية رفض الإنسان للظلم ومبارزته له والانتصار عليه، آمن المسيحيون بأنّ السيد المسيح هو المصلح المنتظر، والقائم بالحق والعدل، وأنّه لا بدّ من عودته إلى الأرض ليقيم دولة الفكر والعلم، ويبسط الأمن والرخاء في جميع أنحاء العالم. ولنقرأ بعض ما صرحت به أناجيلهم في هذا المضمار:
أ- إنجيل متى
بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه، والنجوم تسقط من السماء، وقوات السماوات تتزعزع، وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء، وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض، ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بقوّةٍ ومجدٍ كثير(5).
ب إنجيل يوحنا
الحقُّ الحقُّ أقول لكم: إِنَّه سيأتي ساعة، وهي الآن: حين يسمع الأموات صوت ابن الله، والسامعون يحيون (...) ولا تتعجبوا من هذا؛ فإنّه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الَّذِين في القبور صوته، فيخرج الَّذِين فعلوا الصالحات إِلَى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إِلَى قيامة الدينونة(6). إِلَى غير ذلك من كلمات الإنجيل الكثيرة في هذا المضمار. والغاية من استعراض هذه الكلمات من العهدين: القديم والجديد، وكلمات بعض من لا يؤمن بالغيب، ليست لبيان صحة ما ذهبوا إليه، بل ما نرمي إليه ما عرفت من أنَّ انتظار الإنسانية لمن يأتي ويرفع عنها الظلم والجور الَّذِي منيت به على مرّ تاريخها، هو أمرٌ مفروغٌ عنه ومسلّم، وليس ذلك إِلَّا لفطريته، وإنْ اختلفت التسميات عندهم، في كونه: ابن الله تارةً، وابن الإنسان أخرى، والمسيح أو المخلّص ثالثةً، وبوذا، ولذريق، وجنكيز خان، وغيرها من القائمة الطويلة من التسميات. والاختلاف في التسميات لا يؤثّر بوجه على فطرية الاعتقاد بالمسمى، وإنّما نشأ الاختلاف من الخطأ في التطبيق ليس إِلَّا. هذا، والحمد لله أوّلاً وآخراً، وظاهراً وباطناً..
(1) برنارد شو، الأستاذ عباس محمود العقاد، ص 124 125.
(2) حياة الإمام المهدي عجل الله فرجه، باقر شريف القرشي، ص 203.
(3) الكتاب المقدّس (العهد القديم)، ص 1006.
(4) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ص 14.
(5) الكتاب المقدس (العهد الجديد)، ص 45.
(6) م. ن، ص 154.