لقاء الحبيب (لقاء القائد الخامنئي مع عائلة الشهيد مصطفى أحمدي روشن العالم النووي الإيراني)
كنت أتكئ برأسي على زجاج النافذة عندما كانت سيارتنا تعبر بسرعة من بين السيارات في الشارع، لكي نصل أوّل الوقت قبل الإمام القائد إلى بيت مصطفى. صادفنا زحمة سير خانقة، فقد مررنا بالقرب من المكان الذي فُجّرت فيه سيارة مصطفى، وكنت أخفف عن نفسي قائلاً إنه إذا لم نمُت بسبب قيادة سائقنا، فإننا في النّهاية لن نستطيع الفرار من التّقدير الإلهي الشامل لكل البشر. وفي النهاية وصلنا إلى بيت مصطفى بفضل الله طبعاً إلّا أن العائلة لم تكن في المنزل!
* في "تشيزر"
كانت "جامعة شريف" قد أقامت مراسم في "تشيزر" عند ضريح مصطفى، حيث كانت عائلته بأكملها هناك. ذهبت مجموعة إلى "تشيزر" وأخبرت العائلة خفيةً "أنّ هناك مسؤولاً متجهاً إلى منزلكم!" تمنّعت العائلة في البداية عن القدوم، ولكن في النهاية، نجحت المجموعة في إقناعهم بالمجيء.
صعدنا منزل الشهيد وهو عبارة عن شقة تتألف من غرفتين متواضعتين. كان هناك حاسوبان على طاولة كبيرة في الصالون، وصورتان للإمام القائد"دام ظله" على الحائط، وكان البيت ممتلئاً بالأقارب من النساء، والرجال. وكان هناك الأم والزوجة والأخوات وعائلة زوجة الشهيد، وبالطبع علي رضا ابن الشهيد مصطفى الذي كان مندهشاً من مجيئنا إلى منزلهم. وكان واعياً إلى الحدّ الذي يعرف فيه أنّه في مناسبةٍ كهذه، يجب أن يكون أبوه موجوداً لاستقبال الوافدين! وهذا ما كان يبدو أنه أزعجه وجعله يسأل: فمتى يأتي أبي إذن؟ أحد الصحافيين صعق عندما عرف أنّ أحداً لم ينبئ الابن بخبر استشهاد والده، ولذلك كتب قائلاً: "ذُهلت عن فكرة أنّي صحافي حين رأيتُ جدّة علي رضا تقول له: "إن الله أرسل بابا في مهمّة". طبعاً لا ينبغي التوقّع من صبيّ عمره أربع سنوات أن يفهم معنى الفقد والشهادة، وإن كنت أظنّ أنّه يعرف معنى الله وبابا والمهمّة جيّداً، ولذلك عندما سمع كلام جدّته لجأ إلى حضن أمّه وخبأ رأسه في عباءتها". قام المسؤول المرافق لنا بإخبار أب الشهيد وأمّه وزوجته خفية بهوية الضيف، وطلب منهم المساعدة في جمع كل الهواتف النقّالة وإطفائها. فنهضوا بهدوء تام، وجمعوا الهواتف، وكأنّهم كانوا على علم بمجيء السيّد.
* في منزل الشهيد
ثم نهض والد الشهيد وذهب ليتوضأ. كانت يده ترتجف قليلاً، ربما من التوتّر الذي لم يكن يبديه. عندما دخل الضيف المنزل نهض والد مصطفى من مكانه ومشى إلى الأمام وقال: أهلاً وسهلاً، ثم عانقه. كانا يعزيّان أحدهما الآخر كأنهما والدان فقدا ابنيهما. جاءت أم الشهيد وقالت بعزم ورسوخ: "السلام عليكم سيدنا"، ثم رفعت علي رضا إلى القائد قائلة: "إنّه ينتظرك منذ وقتٍ طويل". وضع علي رضا يده حول عنق الإمام. فقالت أم مصطفى: "علي، قبّل السيد". قبّل علي رضا القائد. وخاطب القائد المرافق الذي كان بجانبه قائلاً: "خذ عصاي"، وعندما أعطاه عصاه، حضن علي رضا. واستأنس علي رضا في حضن القائد، فلم تستطع النسوة إخفاء أصوات بكائهن، ودموعهن، وإن كانت أم الشهيد وزوجته لا زالتا تقاومان. عندما وصل القائد إلى كرسيّه كان قد سأل الصبي عن اسمه وحاله، وسلّم على الحضور، وعندما جلس على الكرسي، استرخى علي رضا على ركبة القائد، دونما أي نفور أو شعور بالاستغراب.
* "شهيدنا العزيز"
نظرت إلى ساعتي. لم يكن قد مرّ دقيقة واحدة على دخول القائد إلى منزلهم، فقال: "حسناً! نسأل الله أن يرفع درجات شهيدنا العزيز هذا، وأن يحشره مع شهداء صدر الإسلام، وشهداء بدر وأحد وشهداء كربلاء إن شاء الله". كان هذا خلاف عادته، إذ بدأ بالكلام في بيت شهيد. كما أنّه كان من الملفت أنّه لم يقل "شهيدكم"، بل قال "شهيدنا".
وقد كانت هذه بالطبع، فرصة لرؤية وجه القائد؛ الذي كان يبدو جاداً، مهيباً، تعلوه الأبهة، وقليل من الحزن والانزعاج. ثمّ تابع قائلاً: "لقد تبلور بوضوح بعدان في ولدكم الشاب، يكفي كل واحدٍ منهما لأن يكون باعثاً على الفخر والعزة. الأول يقع في الجانب العلمي والبحث والإشراف على العمل المهم الذي كان موكلاً إليه... وهذا بُعد يبعث على افتخار العائلة والمقربين، وافتخارنا أيضاً. والبعد الثاني، وهو البعد الأكثر أهمية، هو البعد المعنوي والإلهي. وهذا الأمر هيأه للشهادة. طبعاً، الشهادة مرّة بالنسبة لنا نحن أهل الدنيا وبالنسبة لكم أنتم أب الشهيد وأمه وزوجته الذين تحبّون الشهيد لأنها فقدان بحسب النشأة الظاهرية للحياة؛ إنها خسارة؛ وهذا ظاهر الشهادة... أما حقيقة الشهادة فهي أمر آخر.
أمرٌ أعلى من هذا الكلام. حقيقة الشهادة هي أن الإنسان يرقى فجأة إلى الدرجات العليا، ويعلو مقامه فوق الملائكة. تلك الحياة الحقيقية التي سنصل إليها في النهاية جميعنا، شئنا أم أبينا، في تلك الحياة الأبدية، مقام الشهيد عالٍ ورتبته عالية. التفتوا، فإن فيضه يصل يوم القيامة أيضاً إلى الآخرين ﴿يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾ "دام ظله" (الحديد: 12). وفي ظلمات يوم القيامة، عندما يسير عباد الله الصالحون ومنهم ابنكم فإنهم يضيؤون المكان. فيقول المنافقون في ذلك اليوم أعطونا من نوركم، فيأتيهم الجواب ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾"دام ظله" (الحديد: 13).
اذهبوا وانظروا وراءكم. انظروا إلى حياتكم في الدنيا. إذا كان هناك من نورٍ سيصلكم فهو من هناك. هذا هو البعد الثاني في شخصية ابنكم الشاب، وكل الشهداء". كان علي رضا لا يزال جالساً على ساق القائد، يلعب بأصابعه الصغيرة. تفاجأ الجميع بكلمات القائد العميقة الخالية من المقدمات. إن مناسبات كهذه، هي التي يعرف الإنسان من خلالها معنى الغبطة جيداً.
* صنعوا الكرامة للجمهورية
تابع القائد حديثه: "لقد استشهد هؤلاء في سبيل الله وفي سبيل تعالي الإسلام. لم تكن قضية هؤلاء هي فقط عدم التخلّف عن ركب الدنيا من ناحية العلم، وإضافةً إلى هذا شيءٌ آخر أهم، ألا وهو إعزاز الإسلام من خلال حركتنا العلمية. لقد كانت السنوات الأولى والعقد السادس [الثمانينات الميلادية]، سنوات تفنّن شبابنا فيها بالجهاد، وكان الإيمان موجوداً. حسناً، أذعن العالم، قال: نعم، إيمانهم جيّد، ولكن لا مجال للتطور العلمي والتحضر والحياة. لقد أثبت هؤلاء الشباب بطلان هذا الادعاء. هؤلاء الشباب الذين احتلوا المجالات العلمية وأتوا بشيء جديد، وأثبتوا هويتهم التقدّمية وقابليتهم المتفوقة وأثبتوا امتلاكهم الإمكانات؛ وقد صنع هؤلاء الكرامة لنظام الجمهورية الإسلامية. هذا هو القسم الثاني من فضائل هؤلاء، وهذا هو سبب توفيق الله عز وجل لهم لنيل الشهادة وعلو الدرجات. ... وأنتم كذلك لم تخسروا الشهيد؛ إنَّه كالمال الموجود في المصرف. لا يكون المال موجوداً في البيت، ولكنّه موجود. ليس كالمال الضائع أو المسروق. شهيدكم ليس بينكم، ليس في المنزل، وأنتم لا ترونه، ولكنّه موجود؛ ومتى ينفعكم؟ في اليوم الذي يكون فيه الإنسان أفقر من أي وقت مضى. أسأل الله أن يلهمكم الصبر إن شاء الله".
* طريق الجهاد مفتوح
صار القائد يسأل الحاضرين عن علاقتهم بمصطفى، وكان يدعو لهم في طيات كلامه ثم قال. "إن طريق الجهاد مفتوح، وطريق الخدمة مفتوح. يمكن لكل شخص أن يخدم في موقعه، حيث يستطيع، وعندما تكون خدمته صادقة، فإن الله يقدم هذا النوع من الأجر للأفضل عملاً. لقد سمعت أنّه بعد شهادة الشهيد مصطفى، قام طلاب جامعة شريف، وأماكن أخرى بكتابة الرسائل، وطلبوا تغيير اختصاصهم إلى هذا الاختصاص. هذه بركة. لقد كان لحياته بركة، وكان لرحيله عن هذه الدنيا، وهو الشهادة، أيضاً البركات الوافرة". لم نعرف كيف تسلل علي رضا من حضن القائد وذهب ليجلس في حضن والدته. طلب القائد مصحفاً، وكتب بطمأنينة وتؤدة كما هي عادته في الصفحة الأولى: إلى عائلة الشهيد مصطفى أحمدي روشن. قدّم القرآن الأوّل إلى والد الشهيد. فأخذه وقال: "نحن لسنا منزعجين مما حصل أبداً، أنتم أيضاً سيدنا لا تَدَعوا للحزن مكاناً في قلبكم". رفع القائد رأسه عن المصحف الثاني الذي كان يكتب فيه تذكاراً لزوجة الشهيد، وقال: "نحن محزونون. هذا النوع من الحوادث يصيب قلب الإنسان كالسهم. إنما يجب أن لا يقضي الحزن على الإنسان. هذه الحوادث فضلاً عن أنّها تقوّي إرادة الإنسان وتقرّب من الله عزّ وجلّ، فإنّها تحمل معها نتيجة أخرى؛ كنّا نعرف في السابق أهميّة عملنا، ولكن هل كنّا نعرف مدى أهمية هذا العمل بالنسبة للعدو؟".
قالت أم الشهيد: "لقد كان ابني مصطفى من أنصارك الأوفياء جدّاً. كان حقّاً من أتباعك". قال القائد: "نعم أعرف هذا. وهذا أمرٌ يعرفه ويعيه الجميع من معارفه؛ وكذلك أجهزة المخابرات الأجنبية". تابع القائد قائلاً: "لقد كان أيضاً من أصحاب التوجه المعنوي والسلوك". تقدّم علي رضا مرّةً أخرى دون سابق إنذار، وقبّل القائد ولحيته البيضاء. عندما كان القائد يهدي زوجة الشهيد قرآناً، ارتجفت شفتاها وعيناها. وقالت بصوت خافت: "لقد رأى مصطفى في منامه أنّه كان على رأس تلّة، وأنك مسحتَ على رأسه". سأل القائد: "متى؟". فأجابت زوجة الشهيد: "قبل 20 يوماً تقريباً". ثم تمنّت على القائد قائلة: "سيدنا، ادع لعلي رضا في صلاة ليلك، لكي يصبر!".ووعد القائد بذلك.
* لن أبكي أمام الأعداء
كذلك اقتربت والدة مصطفى من القائد وقالت بصوت خافت: "سيدنا ادع أن يلهمني الله الصبر. أنا حتى الآن لم أبكِ في الملأ". فقال القائد: "ابكي". فقالت أم الشهيد: "لا، لن أبكي أمامهم [الأعداء]، لا أريد أن يفرحوا". فقطّب القائد حاجبيه وقال: "هذا من حماقتهم أن يفرحوا. بكاء الأم لا مشكلة فيه أبداً. ابكي وادعي للشهيد، صاحب الدرجات العالية والحمد لله، واطلبي من الله أن يشملكم دعاؤه وإيانا ويشمل زوجته وابنه". وما إن انتهى القائد من كلامه حتى جرت الدموع من عيني والدة الشهيد. في هذه الأثناء طلبوا الكوفيّة لعلي رضا فحصلوا عليها. وعندما غادر القائد كانت وجوه أهل المنزل مستبشرة.