الحاج حسين منصور
... اعتدل "أبو علي" في جلسته، ورمى الصحيفة من يده، بعد أن أرهقته أخبارها، ونهض من مقعده هارباً إلى الشرفة من حمأة الحرِّ وزمجرته. امتدّ نظره في الخارج، وصل إلى البحر، تركه يرتاح هنيئة، ثمّ أعاده إلى "دير الزهراني" في حركة مفاجئة، وقد احتضنتْ وجهه إشراقة لذيذة حارّة، وتمتمات متلاحقة: "إنّه هو! بالتأكيد إنّه هو! هذه سيارته "المرسيدس" إنني أراها تنحرف عن الطريق العام، وتدخل في الشارع خلف محطّة الوقود، وها هي تصل إلى مرآب المبنى الذي أقطنه. يبدو أنّه ليس وحده، فأنا أرى أربع سيارات تلحق بسيارته، وتقف إلى جانبها".
عبَّأتُ نفسي لاستقباله، فأنا لم أتوقَّع قدوم "السيد" عصر هذا اليوم، ولكم أبهرني، وأبهجني بمفاجآته تلك! دخل "أبو ياسر" بهيبته التي كانت تندفع أمامه اندفاعة فارسٍ مدجَّج متحفزٍ لاقتحام الحصون. احتضنني بكلتا يديه، أطبق بهما عليَّ كمن يحميني من خطر داهم، وأخذتُ أشتدُّ كالشمس في سطوتها، ثم أبترد كالفلاة في سكون الليل. أحسست أنني مسافر قد بلغ واحة من الواحات في غربة السفر وعنائه، وتمنَّيت لو أبقى في حضنه دهراً، فشتَّان ما بينه وبين الكهوف الأخرى المتخشبة. وبالكاد استطاع أن يدعني أفلت من بين يديه، ثمَّ وجّه كلامه للإخوان الذين قدموا معه:
ـ "هذا البيت هو محطّ الأحبّة، يا إخواني، فيه أمضي استراحتي، وأعقد لقاءاتي". ثم التفت إليّ، وقال: "يا أبا علي، هؤلاء هم ضيوفنا، وهم من المجاهدين الذين يقاتلون أعداءنا، ولقد أتوا من الجبال والأودية التي يخيّم عليها القهر، والظلم، لكنّهم تمردوا على واقعهم، وانقلبوا عليه" أدركت أنّ السيد عباس ينقلني إلى رحاب جديدة، وذهنية جديدة، أكتشف فيها أحرار العالم ثم تابع كلامه قائلاً: "إنَّ الجهاد المشترك يجمعنا بهم، ولا بُدَّ لهذا الجهاد من أن ينعى الواقع الخائب والفاشل، ولسوف يُساهم في نهضتنا، ورِفعتنا، وإعلاء شأننا". دعوتهم إلى غرفة الاستقبال. وبعد أن استقروا في أماكنهم وارتاحوا، دنا "السيد" مني، وقال لي بلباقته الفائقة المتفوّقة على نفسها: "أريد أن أرى مهارتك في الهندسة، يا أستاذ!" فرأى علامة استغراب ترتسم على وجهي، فأضاف: "هندس لنا ما يُرضي ضيوفنا". ابتلعت ريقي على عجل، كأنّما نزلت بي نازلة، أو شديدة من شدائد الدهر! كيف أُرضي الضيوف؟! بل ماذا أقدّم لهم؟ لو كان الأمر منوطاً بالسيد وحده، لما تردَّدت في تقديم كوب من الماء البارد في هذا الحرّ، وأنا أعلم تماماً أنّه أحبّ إليه من أدسم الأطعمة، لكنّه برفقة هؤلاء الإخوان الذين قدموا من بلاد بعيدة، ولربما يكون "السيد" قد امتدح أمامهم كرمنا، وحُسنَ ضيافتنا. ماذا دهاك يا أبا علي، وماذا تريد أن تفعل؟! الشهر بات منصرماً، وفي أيامه الأخيرة، يا الله، ماذا أفعل؟ إنّ القدور في البيت خاوية، فارغة، نظيفة متلألئة، كما الجيوب، والثلاجة، تبرّد الهواء وبخار الماء، مسكينة هي الأخرى، تنتظر أوائل الشهر المقبل؛ لتشفي غليلها، وتُشعل شوقها بما قد يدخل إليها، ويبعث السَّلوة فيها.
أُربكت وتحيّرت. البيت يعاني من القحط، وهذا القحط أشدُّ صلابةً من الحديد. وكأن "السيد" كان يستمع إلى تلك الأفكار التي تجول في رأسي، وتبحث عن مَنْفذٍ لهذا المأزق، ويبدو أنّه شعر بحالي البائسة، فأخذني جانباً، وسألني: "ما الأمر، وأنا أرى لسانك قد جفّ، وبًتَّ كالأبكم، أو لكأنّك غارق في حفرة من اليأس؟ أوتُراك مريضاً؟ أنا لم أعهدك على هذا النحو في أصعب الأحوال؟!" تنهدت أمامه تنهيدة اليٍأس الحزين، وقلت بكل أسىً ولوعةٍ، كأنني ورقة خريفيّة تهوي إلى الأرض: "لا مال، ولا طعام، يا سيد". وظننت أنني أغلق الأبواب، وأتمادى كثيراً، وأنا أتفوّه بهذه الحقيقة المرّة، أو لكأنّني أدع "السيد" يقع في مأزقٍ محرجٍ للغاية أمام الضيوف، والأسوأ من ذلك، هو أنْ يظنّ أنني أفعل ذلك لأطلب منه المال! انفرجت أسارير "السيد" وقال: "ما هذا الأمر العظيم الذي يلوح لك كسراب الصحراء، ويكاد يطيح بك؟! إننا الآن متعادلان، فأنا لا أجد في جيبي قرشاً واحداً، وجَيْبي فارغ كالهائم الحائر، ومحفظتي كالهيمان العطشان، أمّا خزان الوقود في السيارة؛ فقد سلبناه كلّ ما في جوفه من وقود، وأراه يلهث الآن ليروي ظمأه". ثم إنّه أرسل تلك الابتسامة الحلوة الرقراقة التي تحمل العطف والحنان، تلك الابتسامة التي ينوي بها القربة إلى الله، وطلب العون منه، وأردف تلك الابتسامة بقوله: "قم، وتوكّل على الله، ودبّر الأمر. ألا تعلم يا أبا علي أنّ مُرَّ الأيام مثل حلوها سواء بسواء؟ يا أبا علي، ما دام في قناديلنا مثل هذا السّراج وأشار بيده ناحية القلب فلا تخشَ شيئاً". كانت الشمس قد بدأت تدب نحو مرعاها الآخر، تريد الثقب الذي تأوي إليه، وتغور فيه، وقد سقط في يدي، ولم أعد أمتلك سوى خيار واحد، ووحيد، هو أن أحمل ابتسامة "السيد" وتوكله، وأخرج قاصداً أحد الجيران أو الأصدقاء فأستدين منه ما يساعدني على أن أهندس ما يرضي ضيوفي على الرغم من معرفتي بضعف الأمل، وقلَّة الرجاء. بلغتُ الباب الخارجيّ، بينما نظرات "السيد" تلاحقني كملاك أوكله بمرافقتي، وقد انكسر قلقي وانهزم، وسكن غليان نفسي واطمأنَّتْ، وفتحت الباب وأنا أشعر بالراحة والأمان، وإذ برجلٍ كان يهمّ بطرق الباب، يسدّ طريقي، لقد وجدتُ أمامي "أبا حسن" محاسب المصلحة التي أعمل فيها.
صافحته، وطلبت منه الدخول، تقدّم خطوة نحو الداخل، وقال: هذه ليست زيارة للسَّمر، يا أبا علي، وأريد أن أنهي الموضوع سريعاً، لأعود إلى منزلي، لكنّني كنت قد بحثت عنك في مكاتب المصلحة وطوابقها، فلم أجدك، وكأنّما هاتفٌ هتف في أُذني: "اذهب إليه فلعلّه بحاجة إليها، ولذا جئت إليك في هذا الوقت، ولم أرغب في تأجيل ما أنا بصدده ليوم غد". ما هي التي أنا بحاجة إليها؟ أوَيدري صاحبنا ما أنا بحاجة إليه الآن؟ لكنني لا أذكر أنني نسيت شيئاً في المصلحة هذا اليوم! كان "أبو حسن" يكلّمني، بينما يده كانت تعبث في محفظته الجلديّة السوداء التي لا تفارقه. أخرج منها رزمة من النقود، وقال: "في هذه الرزمة مئتان وثلاثون ليرة، إنها الفروقات المالية المستحقَّة لك عن زيادة الرواتب الأخيرة، وقد آليتُ على نفسي أن تصل إليك، ولا أدعها تبيت في محفظتي". كدت أشتعل من جديد، وشعرت أنّ الدنيا تضيق وتتسع في آنٍ معاً، وظننت للوهلة الأولى أنّ الحرّ قد عاد وتجدّد، وفعل فعله بي، أكاد لا أصدق، أفي يقظة أنا، أم في حلم؟! لاحت مني التفاتة نحو "السيد" الذي كان يراقب هذا المشهد، ويرسل ابتسامته التي حملت العنوان، وقالت لي: إقرأ، فقرأتها، وتحرّرت من كلّ ما كابدته وعانيته... وناداني "السيد"، فاقتربت منه، قال: "أرى أنّ المشكلة قد حُلَّتْ، وأنّ العون قد وصل، والمال قد توفر، ومن هذا الرزق الذي ساقه الله إليك، هات، ناولني ما أنا بحاجة ماسَّة إليه". وضعت المبلغ كلّه بين يديه، مدَّ يده، وتناول منه ثلاثين ليرة، وقال: "أتحسب يا أبا علي أن الله ينصرنا "بالبارودة" فقط؟! هيا، قم واذهب، "ودبّر حالك بالباقي".