فاطمة منصور
هي أنفسنا بكل ما تحمله من تناقضات وكل ما تخفيه من أسرار وكل ما تجلّيه من حقائق. ونحن في هذه الحياة والامتحانات نحاول أن ننقذها ونربحها. وفي كل مرة نسلك طريقاً ونستخدم أسلوباً لنعرفها ونزيل من أمامها العثرات. نحتاج في كل آن إلى أدوات للمعرفة ومرشدين علماء نستفيد من علومهم وتجاربهم. وفي هذه القراءة إطلالة على كتاب يحمل في طياته الكثير من المفاهيم التي تساهم في جعلنا على تماس مباشر مع أنفسنا حتى نحذر ولا تأخذنا سطوة الغرور مهما بلغنا في المراتب أو حصّلنا من العلوم.
وفي رسالته "ميزان العدل في المحاكمة بين جنود العقل والجهل"، يأخذنا السّيد محمد رضا فضل الله إلى أرض الواقع، مباشرة.
*محاكمة بين جنود العقل والجهل
هذه الرّسالة ذات أبعاد متنوعة، تركّز على معالجة نوازع الّنفس وصراعاتها الدّاخلية، فيعدّ لنا الكاتب محاكمةً يترافع فيها كل من جنود العقل وجنود الجهل بأسلوب أدبيّ مبْدع لم نشهد له نظيراً. ويهدف من خلال رسالته ومعالجته الدرامية إلى إبراز قضيّة مهمّة هي قضيّة وجود الإنسان من لحظة بداية الخلقة إلى الحساب والقيامة، ومع "نفسه" التي تكون مسرح النّزاع والصّراع والمواجهة وهي بذاتها المحدّد لمصير الإنسان.
يذهب السيد مباشرة إلى المفصل الأساسي الذي يعدّ محور النزاع، ليبدأ من المناسبة التي دعته لكتابة الرسالة، وهي حادثة صادفها في النجف الأشرف حيث أخفى أشخاص السمك الذي كان قد أعدّه لضيوفه وذلك من باب الممازحة، حيث دهش السيد من هذا التصرّف غير المألوف لديه، فكانت تلك الحادثة المحرّك له كي ينقلها إلى مسرح الواقع، ويطبّقها على ميول النّفس نحو الدنيا وطلب متاعها. فعبّر عن فكرته بأسلوب قصصي ممتع يترك أثراً في النفوس وخصوصاً إذا ما التجأ إلى الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية والمروية عن الأنبياء والأئمة عليهم السلام. وكذلك الأبيات الشعريّة التي ألّفها خصّيصاً لهذه الرسالةِ أو استعان بغيره من الشعراء، وأيضاً لم يغفلِ الحِكم والأمثال المنقولة عن العرب.
هذه الرسالة جاءت في 279 صفحة من الحجم الموسط. قام بتحقيقها يوسف نظام الدين فضل الله، وقد عمل على تنقيحها وإخراجها بشكل علمي.
بعد أن قدّم السيّد للكتاب ووضع الهدف في متناول القارىء، تناول خمس نقاط وهي: جنود الجهل - جنود العقل - الدار الآخرة والحساب - جنود العقل تهاجم جنود الجهل - هجوم مضاد - وختم بالعبرة. ويمكن معالجة محتوى الكتاب كالتالي:
1 - الهدف من الرسالة
وهو تحذير وتنبيه ذوي العقول ألاّ يقعوا في شرك إبليس وحيله ومكائده، فأساليبه معهم مختلفة عن تلك التي يتوجّه بها إلى عامّة الناس.
2 - آلية عمل جنود الجهل والشيطان
يتسلّل جنود الجهل والشيطان من خلال تحوير الخطاب الدّيني وتفسير الآيات والأحاديث التي تزيّن للمرء مغريات الحياة الدّنيا. وقد ينزلق تحت تأثيرها ويقع في مهاويها وهو يظنّ كل الظنّ أنّه في الطريق السليم، وفي النهج القويم، وعلى الصراط المستقيم. ولعلّ الشيطان وجنوده أكثر ما يعملون عليه هو أن يوقعوا أهل العقل في شرك الجهل، حتى يسهل عليهم فيما بعد أن يغرقوهم في شِباك أخرى تؤدي إلى ضلالهم بشكل أولي وإلى إحداث ثغرة بينهم وبين من هم أقل معرفة منهم، ولعل هذا أدهى المصاب.
3 - أولى المكائد التي ينصبها الشيطان وجنوده
تتمحور في مغريات لذّات المأكل والمشرب وكيفية تسلّط الشيطان على فئة من القوم، وهم من أصحاب العقول، والعلم، والاطلاع، فاصطادهم بشركه وأوقعهم في حبائل مكره وخداعه. وهنا، وفي هذه المرحلة يكون الفخّ المعدّ في الزّمان المحدّد، وهو يوم سرور وفرح، ويأتي الفخ المتجسّد بالسمك الذي يرمز إلى مغريات الدنيا بكامل أوصافها، وبأجمل حلّتها يحصل عليه المفتون بلا تعب ولا مشقة. كل هذا في إطار مسبوك من تلاعب وحيل تخطف ألباب أصحاب العقول. والذريعة هي المزاح فتكون نتيجة هذا الانقياد تبدّل القيم وتغيّر الزّمان وأهله.
4 - انقسام المشهد إلى صراع قائم بين معسكرين
- المعسكر الأول: معسكر الجهل وجنوده، وأعوانه، ومراكز وجوده، ومكامن القوة والضعف عنده وصولاته وجولاته لاستمالة النّفس وسوقها إلى جهنّم.
- المعسكر الثاني: وهو معسكر العقل، وجنوده، وأعوانه، ومراكز وجوده، وحصونه المنيعة، وتأييده، وتسديده من الروح القدس بصموده الدائم وصدّه العنيد وثباته، يواجه التضليل بالبرهان الساطع والحقيقة العلمية الواضحة.
وهكذا يحصل الاشتباك؛ فالغاية هي أن تقع النفس في شرك الشيطان (السمك) الذي نصبه لها.
ورمز الكاتب إلى أدوات الصراع العنيف داخل النفس للاستيلاء عليها. فلكلٍ رمزٌ من رموز العقل وما يقارعه من رموز الجهل، والحرب ضروس تستخدم فيها كل أسلحة الإثبات والإقناع. والصراع لا يتوقّف إلى أن تكون الغلبة لمن ثبَت وصمَد في النهاية.
5 - بلوغ الصراع ذروته
عندما بلغ إغراء إبليس ذروته حيث حبك مكيدته وكادت معها النفس المطمئنة تستسلم لهذا المنطق، تدخلت جنود العقل في خطابٍ مقنعٍ. وكذلك العفّة، والإيمان ولا يغفل دور العلم الذي يبيّن الحقّ من الباطل ويرشد بشواهد تثبت براهينه يخضع الجهل أمامها. ولكن الشيطان لا يستسلم، فهو يجدد هجماته بما لديه من مكر وخداع وسلاح الوسوسة. فهو يحاول استغلال الناس عبر مدخل يوم الفرح والسرور حيث تُقدم النفس الأمارة وتُحاول مرة أخرى أن تَنفذ من خلال غفلة بعض الناس عن الشكر، فتعاينها المطمئنّة بالثناء على صاحب النعمة لكن بعض الناس قد يقع في شرك السمك، الذي وإن اعتبر بعض الناس أنه قد قام بفعل ممازحة باختطافه إلا أنه قد وقع فعلياً في شرك إبليس والذي استغل أولي الألباب وأصحاب العقل.
6 - العبرة
بعد أن تداخلت المشاهد بين المواقف، واعتلت كل أطراف الصراع منبراً، واتخذت من حججها متراساً تدفع به الطرف الآخر، وتحاول أن تغلبه، كانت المفاجأة باغتيال السّمك، وهنا العبرة التي أرادها الكاتب أن تكون كالصاعقة فيتأمل الجميع وتكون النتيجة أن الإنسان مهما بلغ ليس بمأمن من أن يكون محطاً للامتحان.
كانت القضية التي شغلت بال السيد محمد رضا فضل الله أن يوسع بالكشف عن النفوس والقوى الباطنية، والعقل وجنوده والجهل وجنوده، فجاءت رسالته "السمكية" مليئة بالحكم والدلالات وفيها تسلية للعامة وتذكرة لأولي الألباب، بعيداً عن الأسلوب المعهود قبلاً في تناول هذه القضية؛ فذهب إلى التطبيق العملي بأسلوب قصصي متين فيه من الرقّة والعذوبة ما يجعلك تتابع الفكرة تلو الأخرى دونما ملل بخطابات نثرية وصيغ بلاغية. وما انتهجه من أسلوب اعتلاء المنابر وإلقاء البراهين والحجج وإجراء المناظرات بين الطرفين، دون أن يبتعد عن رؤية الدين ودور العقل في ما يقع لمصلحة الإنسان وسعادته في الدارين.
إن إحياء مثل هذا التراث يعدّ واقعاً من أهم الأدوات التي ترشد الإنسان إلى ضرورة العودة إلى بطون كتب العلماء الأجلاء لتحصيل الفائدة والاستنارة بالمعرفة والهداية.