العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي قدس سره
يتحدّث كثير من علماء الأخلاق عن أثر حبّ الله تعالى في السلوك إليه، وعن أثر الحبّ في خلوص النيّة والعبادة. اخترنا هذا المقال من آثار العلّامة السيّد الطباطبائيّ قدس سره .
لا ريب في أنّ الله سبحانه -على ما ينادي به كلامه- إنما يدعو عبده إلى الايمان به، وعبادته بالإخلاص له والاجتناب عن الشرك، كما قال تعالى: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ (الزمر: 3)، وقال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البيّنة: 5)، ﴿فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (غافر: 14)، إلى غير ذلك من الآيات.
ولا شكّ في أنّ الإخلاص في الدين إنّما يتمّ على الحقيقة إذا لم يتعلّق قلب الإنسان، الذي لا يريد شيئاً ولا يقصد أمراً إلّا عن حبّ نفسيّ وتعلّق قلبيّ، بغيره تعالى، من معبود أو مطلوب؛ كصنم، أو ندّ، أو غاية دنيويّة، بل ولا مطلوب أخرويّ، كفوز بالجنة أو خلاص من النار، وإنّما يكون متعلّق قلبه هو الله تعالى في معبوديّته، فالإخلاص لله في دينه إنّما يكون بحبّه تعالى.
•انجذاب المحبّ إلى محبوبه
ثمّ الحبّ الذي هو -بحسب الحقيقة- الوسيلة الوحيدة لارتباط كلّ طالب بمطلوبه، وكلّ مريد بمراده، إنّما يجذب المحبّ إلى محبوبه ليجده، ويتمّ بالمحبوب ما للمحبّ من النقص، ولا بشرى للمحبّ أعظم من أن يبشَّر أنّ محبوبه يحبّه، وعند ذلك يتلاقى حبّان ويتعاكس دلالان.
فالإنسان إنّما يحبّ الغذاء وينجذب ليجده، ويتمّ به ما يجده في نفسه من النقص الذي يأتيه من الجوع، وكذا يريد لقاء الصديق ليجده ويملك لنفسه الأنس ولا يضيق صدره، وكذا العبد يحبّ مولاه، والخادم ربّما يتولّه لمخدومه ليكون مولى له حقّ المولويّة، ومخدوماً له حقّ المخدوميّة. ولو تأمّلت موارد التعلّق والحبّ، أو قرأت قصص العشّاق والمتولّهين على اختلافهم، لم تشكّ في صدق ما ذكرناه.
•الحبّ الحقيقيّ
العبد المخلص لله بالحبّ لا بغية له إلّا أن يحبّه اللهُ سبحانه، كما أنّه يحبّ الله، ويكون الله له كما يكون هو لله عزّ اسمه، فهذا هو حقيقة الأمر. غير أنّ الله سبحانه لا يعدّ في كلامه كلّ حبّ له حبّاً، (والحبّ في الحقيقة هو العلقة والرابطة التي تربط أحد الشيئين بالآخر) على ما يقضي به ناموس الحبّ الحاكم في الوجود، فإنّ حبّ الشيء يقتضي حبّ جميع ما يتعلّق به، ويوجب الخضوع والتسليم لكلّ ما هو في جانبه. والله سبحانه هو الواحد الأحد الذي يعتمد عليه كلّ شيء في جميع شؤون وجوده، ويبتغي إليه الوسيلة، ويصير إليه كلّ ما دقّ وجلّ، فمن الواجب أن يكون حبّه والإخلاص له بالتديّن له بدين التوحيد وطريق الإسلام، على قدر ما يطيقه إدراك الانسان وشعوره، و﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ﴾ (آل عمران: 19). وهذا هو الدين الذي يندب إليه سفراؤه، ويدعو إليه أنبياؤه ورسله، وخاصّة دين الإسلام، الذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه، وهو الدين الفطريّ الذي تُختم به الشرائع وطرق النبوّة، كما يختم بصادعه (بمرسله) الأنبياء عليهم السلام. وهذا الذي ذكرناه ممّا لا يرتاب فيه المتدبّر في كلامه تعالى.
•سبيل الإخلاص
وقد عرَّف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد، وطريقة الإخلاص، على ما أمره الله سبحانه، حيث قال: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف: 108)، فذكر أنّ سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة، والإخلاص لله من غير شرك، واتّباعه واقتفاء أثره إنّما هو في ذلك، فهو صفة من اتّبعه.
ثمّ ذكر الله سبحانه أنّ الشريعة التي شرّعها له صلى الله عليه وآله وسلم هي الممثّلة لهذا السبيل، سبيل الدعوة والإخلاص، فقال: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾ (الجاثية: 17)، وذكر أيضاً أنّه إسلام لله، حيث قال: ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ (آل عمران: 20)، ثمّ نسبه إلى نفسه، وبيَّن أنّه صراطه المستقيم، فقال: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ (الأنعام: 153).
وفي المعاني عن الإمام الصادق عليه السلام قال: ما أحبَّ الله من عصاه، ثمّ تمثّل بقوله:
تعصي الإله وأنت تُظهر حبّه
هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبّك صادقاً لأطعته
إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع
•يُحببكم اللّه
ومن جميع ما تقدّم، يظهر معنى الآية: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ (آل عمران: 31)، فالمراد -والله أعلم-: إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديّتكم بالبناء على الحبّ حقيقة، فاتّبعوا هذه الشريعة التي هي مبنيّة على الحبّ الذي ممثّله الإخلاص والإسلام، وهو صراط الله المستقيم الذي يسلك بسالكه إليه تعالى، فإن اتّبعتموني في سبيلي -وشأنه هذا الشأن- أحبّكم الله، وهو أعظم البشارة للمحبّ، وعند ذلك تجدون ما تريدون، وهذا هو الذي يبتغيه محبّ بحبّه...(1).
(*) مقتبس من تفسير: الميزان في تفسير القرآن.
1.(م.ن)، ج3، ص157- 159.