حوار: ولاء إبراهيم حمود
مرّة أخرى، نرِدُ على موارده؛ عطاشى إلى مثقالِ قطرةٍ من فيض قلبه الكبير، تضحيةً وفداء.. قطرة، روت فيما مضى ظمأ الصحراء إلى ساقيها. وساقيها فجّرَ فيها ينابيع الوريد، فأزهرت شهداء إسلامٍ مجيد.. وقطرة أُخرى، روت ظمأ الحياة إلى إنسانها، قيماً وإيثاراً فأورقت في يباس التاريخ المحترق فوق أتون الفجيعة، نثراً وشعراً وشعراء.. مرّةً أخرى نتفيّأ ظلال الحسين عليه السلام، ونقرأ قصيدته الأخيرة، التي خطّها بمداد الحب الإلهي الكبير والدم النبوي الطاهر، فوق رمضاء الطفوف لتتوضأ اليوم قصائدُ أحرارٍ كبارٍ؛ ذات فجرٍ وتصلّي وتطوف.
وأَحدُ هؤلاء، شاعِرٌ. والشاعِرُ يدركُ بالحسِّ ما يفوق كلَّ إدراك ملموس. وهو بعد، لبنانيٌّ مسيحي أخذ زمام المبادرة ونصرَ النداء الحسيني الخالد. نعم ثمةَ ناصرٌ للحسين ولا يضيره أنه لبَّى النداءَ العظيم مع مطلع الألفيّة الثالثة، ولا يضيره أيضاً أنه أنشأ التلبيةَ النبيلةَ ملحمةً شعريةً جميلةً، قالت في الحسين عليه السلام من الحب أصفاه ومن الشعر أعذبه وأصدقه. إنه الأستاذ جورج شكور، ابنُ مدينة جبيل الموالية للحسين عليه السلام متجاوزةً حدود الطوائف. وهو ذا حوارنا حول ملحمته الثالثة عن سيد الشهداء، بعد ملحمتيه السابقتين عن جدِّه وأبيه عليهما منّا ومنه السلام...
* رابطة الدم والفداء
أيُّ سرٍّ في الحسين عليه السلام يجمع حوله مبدعي أمم الأرض، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم؛ ويجعل شاعراً مسيحياً كريماً يعزف على أوتار بطولته الفذة هذه الملحمة الرائعة؟ الإمام الحسين شخصية محورية، تمثّل الإنسان النبيل، الآخذ عن جدِّه أرفع القيم والمُثُل. وإن لم يكن رسولاً، فإنما هو مُخلّقٌ بأخلاق الرُّسل ومقتدٍ بِسيَرهم العظيمة. وهو المؤيّدُ للعدل، الرافض للظلم، المتعالي على المراتب الدنيوية. والنفوس السامية تحب هذا النموذج البشري، إلى أي عصرٍ أو طائفةٍ انتمى، وفي هذا أقول شعراً: صراعٌ يضجُّ بهذا الوجود وينشبُ ما بين خير وشر بقلبي ضممت شتات البشر حدودٌ؟
هنالك تمحى الحدود (1) إنّ ما بين الإمام الحسين والسيد المسيح، رابطة من الدَّمِ والفداء، فالمسيح وطِئ الموتَ، ووهب الحياة للذين في القبور؛ والإمام الحسين وطِئ الموتَ بالموت ووهب الحياة لمن أتى بعده من الشهداء، فكلاهما كان استشهاده برضىً وفرح لخلاص البشر. فالمسيح ليست مملكته من هذا العالم، والحسين لم يكن طالب خلافةٍ، بل هو أكبر منها بكثير وإنما هو طالب حقٍ ورافض ظلمٍ وهو مثال انسجامٍ مع نفسه وربّه. أيُّ سرٍّ ذاتي فيك أنت، دفعك إلى ظلال الحسين عليه السلام؟ وكيف استقبلت الأوساط الفكرية الإسلامية، والشيعية تحديداً، رشْحَ هذا الحبّ المسيحي ملحمةً حسينيةً بامتياز؟
هي بعضُ وفاءٍ لتحية القرآن الكريم، على قاعدة "الردُّ على التحية بمثلها إن لم تستطع الرد بأحسن منها". وأنا شخصياً، لا حاجة بي إلى القسم، لأؤكد أنني لا أفرِّق بين دينٍ ودين، كتاباتي تشهدُ لي بذلك، ولا مصانعة لديَّ ولا زُلفى ولا تودّدَ ولا استجداء. إنما هي شهادةٌ للحق. والمسيح نفسه ما جاء إلا ليشهد للحق. وملحمتي التي لم تتجاوز الثمانين بيتاً، تقول الكثير عن سيرة الحسين وقيمه وشيمه وروعة استشهاده، وفعله الدائم في التاريخ. ولقد شهد لها أربابُ الفكر والفقه والشعر في لبنان والعواصم العربية، وعدَّها بعضهم معجزة العصر لأنني لم أنظم التاريخ نظماً بارداً، وإنما أشعلْتُ ذاتي شعراً لأُشَعْرِنَ التاريخ، كما قال عني سيدُ الشعر سعيد عقل. وأذكر أني أنشدت ملحمة الحسين في قاعة الأونسكو في بيروت، وكذلك على تلفزيون المنار وصفَّقت لها القلوب قبل الأكف، وحين ألقيتُ بعضاً منها في مهرجان الشعر العالمي الذي أَحيتْهُ الجمهورية الإسلامية في طهران، طرِب لها رئيس الجمهورية الإسلامية وبكى كما طرب لها الأكابر في إيران ومعظم شعراء العالم ممن فهموها مترجمة إلى الانكليزية والإيرانية.
* ملحمة الحسين.. مترجمة
لماذا تنهّدت القوافي على مفارق متعددة متنوعة في ملحمتيكَ العظيمتين عن الرسول صلى الله عليه وآله والإمام علي عليه السلام والتزمت مع الحسين عليه السلام زفرتها الحرَّى الوحيدة، ذات الصوت المجهور "الراء، مضمومةً"؟ ملحمة الإمام الحسين ثمانون بيتاً فقط، موحدة القافية، لم أحتج فيها إلى التنويع خلافاً لملحمة الإمام علي عليه السلام وملحمة الرسول صلى الله عليه وآله، فتجاوزت الأولى منها الأربع مئة وعشرين بيتاً والثانية الألف وخمسين بيتاً، فكان طبيعياً أن تتنوع فيها القوافي وذاك أنسب لتنوع المواقف والموضوعات. لماذا انفردت ملحمة الحسين عليه السلام وحدها بالترجمة إلى اللغة الفرنسية دون ملحمتَيْكَ الأخريين؟ وهل تعتقد أن الترجمة (على أهميتها ودقتها) استطاعت أن تنقل كلّ ما اختلج في وجدانك الحرُّ النقي من فيض مشاعرك نحو الحسين عليه السلام، إلى ضمير الناطقين بهذه اللغة الجميلة، ووجدانهم؟ صدف أن وجدتُ صديقاً محباً ومالكاً زمام اللغتين العربية والفرنسية، فحظيت ملحمة الحسين برضاه وإعجابه بها، فتلطف ونقلها نثراً جميلاً ودقيقاً إلى الفرنسية. لكنْ بالتأكيد في الترجمة يفقد الشعر شيئاً كثيراً من روعته. وعلى كل حال يبقى المترجم مشكوراً، لأنه يجعل الأثر المترجم يتخطى حدود اللغة الواحدة والأمة الواحدة، فشكراً للأستاذ أمين زيدان الذي أجاد ترجمة ملحمة الحسين إلى الفرنسية بدقةٍ وأناقة، ولها أيضاً ترجمة أخرى إلى الإنكليزية شعراً، قام بها الدكتور بولس سروع وهي ترجمة رائعة بشهادة كبار المستشرقين، ولها ترجمة بارعة إلى الفارسية قام بها السيد محمد رضا زائري، وستطبع قريباً هاتان الترجمتان مع الأصل العربي في إيران. أما ملحمة الرسول صلى الله عليه وآله وملحمة الإمام علي عليه السلام فلا تزالان تنتظران من يترجمهما إلى الإنكليزية والفارسية بإذن الله..
* الحسين عليه السلام جدُّ هذه المقاومة
لماذا انفردت مرة أخرى ملحمة الحسين عليه السلام وحدها بختام، جمعها مع أنبل قضايانا "المقاومة في لبنان والقدس الشريف"؟ انفردت ملحمة الحسين بهذا الختام الذي يقارن استشهاد أحفاد الحسين وسواهم من الأبطال اللبنانيين في نضالهم ضدّ إسرائيل المغتصبة الظالمة باستشهاد الإمام الحسين، دفاعاً عن الحق، وصوناً للمبدأ، ورفضاً للظلم. والحسين بحق جدٌّ لهذه المقاومة الشريفة وقضيته قضية حق ومشعل حرية كان ولا يزال مشتعلاً طالما هناك شعوب مظلومة، وحقوقها مهدورة، ولذلك قلت مخاطباً كربلاء، ومقارناً بين عظمة قبر الحسين عليه السلام وما يرمز إليه، واختفاء قبر يزيد. وفيك قبرٌ غدت تحلو محجّته يهفو إليه من الأقطار زوَّارُ فأين قبرُ يزيد من يُلمُّ به غيرُ التراب، وفوق الترب أحجارُ (2)
* وملحمة عن السيّد المسيح!
ألا تعِدنا بملحمةٍ عن السيّد المسيح وأمه مريم عليها السلام، هذين البطلين العظيمين وقد ترنَّمت ببطولتهما معاً آيات الله سبحانه في كتبه السّماوية إنجيلاً وقرآناً؟ بلى أعِدُكِ وأعِدُ العالم بملحمةٍ عن السيد المسيح، وقد بدأتها، وأعجبت كثيراً بما ورد عنهما من أقوالٍ سامية في القرآن الكريم ومنها ما حلّ لي قضية نسب المسيح أَكنعاني هو أم عبراني، "فالمسيح كلمة الله.. ألقيت إلى مريم وروح منه" فلا جدالَ بعدُ في نسبه. ماذا عن الشعر الحسينيّ؟ هل تراه - كما سيّدُ الشهداء- ملهماً لثوراتٍ تبني الإنسان مقاوماً للذلّ والظلم والاعتداء؟ الشعر الحسينيّ اليوم مزدهرٌ. وهناك شعراء مجلّون في هذا المجال. وهو ملهمٌ حقاً لكوكبةٍ من الشعراء البارعين ومشعل ثوراتٍ وحركاتٍ مقاومةٍ قويةٍ فاعلةٍ وشريفةٍ وعلى يدها تحرّر شعوب وتستقل أوطان.
* أقول للحسين عليه السلام
ماذا يمكن أن تقول للإمام الحسين، لو قدّر لك أن تراه فجأةً؟ وماذا تقول للذين يمسحون دموع الأسى على أعتاب منبره، ثم ينطلقون منه إلى ميادين الحياة لبنائها على نهجه؟ لنفرض، جدلاً، أنه يوم القيامة والتقيت الإمام الحسين، فكم أكون فرحاً بهذا اللقاء، وأول ما أقوله له ما قاله والده الإمام علي: "حقاً جولة الباطل ساعة وجولة الحق حتى قيام الساعة". وقد حلَّت هذه الساعة وانتصر الحق، وزهق الباطل، والحقُّ لا يموت إنّ ظلّ خلفه مطالب؛ وأنت يا إمام الشهداء باقٍ وسيظلُّ لديك مؤيدون يهتفون: "لبيك يا حسين" و"هيهات منّا الذلة". وأقول له أيضاً: "ما أروع التمسك بالمبادئ والقيم والمُثُل والتفكّر بالذات وبالبطولة". وأقول للسائرين على نهجه، لأحفاده ومؤيديه: أيّها الأحباء، لاستشهاد الإمام الحسين وجْهٌ مأساوي كان كرْباً في زمانه وسُكبت عليه أنهارٌ من الدموع، دموع أسى ودموع ندم، أما الوجه الآخر فهو أنه أصبح اليوم رمزَ فرح بالشهادة وإعزازٍ لرموز المبدأ والحق، لذلك قلتُ:
أكبرتُ عن أدمعي يوم الحسين وللشهادة البكر أعراسٌ وإكبار |
في ثوبه احتشدت دنيا وقد نهضت أحلام وأمته إذ ضجَّ إنذارُ |
المبدأ الحرُّ سرٌّ لا أدنسُه مقدس، وحماة السرُّ أحرارُ |
ولم أعتبر كربلاء كرباً وبلاء، كما اعتبرها كثيرٌ من الشعراء ومنهم الشاعر الشيعي الكبير الشريف الرضي(2)، لذلك قلت:
يا كربلاءُ، أأنت الكربُ مبتلياً وأنتِ جرحٌ على الأيام نفّارُ |
لا، لا وثيقة حقٍّ أنتِ شاهدةٌ وفي الخليقة أشرارٌ وأخيارُ |
يا كربلاءُ لديك الخُسْرُ منتصِرٌ والنصرُ منكسرٌ والعدل معيارُ |
كما أنني أقول لمحبي الحسين ومتابعي خطه:
بوركتم، أيّها الأبطال، وبورك مسْعاكم الميمون وبناؤكم الثابت المبارك، ولم تذهب جهودكم سدىً.
(1) هذان البيتان من ملحمة الإمام الحسين، للأستاذ جورج شكور الطبعة الثانية، شباط 2009، الطباعة شركة ساب انترناسيونال، بيروت لبنان.
(2) من ديوان الشريف الرضي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الجزء الأوّل، صفحة 33.
كربلاء، ما زلتِ كرباً وبلا
ماذا لقي عندك آل المصطفى
كم على تربك لمّا صرعوا
من دمٍ سال ومن دمعٍ جرى