إن مفاهيم القرآن هي مفاهيم للحياة وليست مجرد معلومات. فالمعلومات القرآنية قد تكون لشخص ما جيدة ولكن لا أثر لها على حياته وسلوكه على الإطلاق! أما المفاهيم القرآنية فعلينا أن نسعى لتجسيدها في حياتنا، كما أجابت إحدى زوجات الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم المكرّمات حينما سُئلت عن أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم قالت: "كان خُلُقه القرآن"1 أي إنه كان قرآناً متجسّداً. وهذا المعنى هو ما ينبغي تحقيقه في مجتمعنا.
*مصاديق القرآن
إنّ أصل تحقّق الجمهوريّة الإسلاميّة هو حقيقة واضحة من حقائق القرآن وهي خافية، في الغالب، رغم شدّة وضوحها. إنّها تجسيد للقرآن الكريم، ومن أكبر مصاديق العمل به. هذا المصداق حقّقته لنا الثورة، يجب أن لا نغفل عن ذلك.
لعلّ المهمة الأساس، والعمل الرئيس في أي مكان هو إيجاد النظام، لأن فيه تنضوي جداول عديدة وأعمال كثيرة، ولا بدّ أن تُنجز. فإيجاد نظام قائم على الدين، هوية المسؤولين فيه وأداؤهم، وعملهم، وعلاقتهم بالناس كلّها على أساس الدين والدستور والدين الإسلامي هو أكبر مصداق من مصاديق العمل بالقرآن.. وهذا ما قام به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حينما هاجر إلى المدينة.
قبل الثورة، كان هناك خيّرون وناصحون قلائل تتحرّق قلوبهم وضمائرهم، ويتألمون. ينصحون الناس باستمرار ويعظونهم، والموعظة تؤثّر في القلب، لكنها كانت لا تقبل التحقيق العملي. لأن النظام، كان آنذاك، ظالماً، ولأن التوجه العام في المجتمع مُخالِف للعدالة والإنصاف والأخلاق. في مثل هذا الاتجاه المغلوط لا يجدي الإصرار على فلان وفلان أن "كن عادلاً، رحيماً، ومنصفاً". وهذا ما حققته الثورة حين أسست النظام الإسلامي. يجب أن لا ينسى باحثونا القرآنيون وشبابنا المتحمّس هذه الحقيقة الواضحة والساطعة، إنها حقيقة مهمة جداً.
*سلوكنا.. القرآن
ضمن هذا الإطار، ينبغي الدخول في البناء القرآني والنهوض بالمهام الأساسية من أجل أن يكون المحتوى قرآنياً، بالمعنى الحقيقي للكلمة. يجب أن يكون على أساس الإسلام سواء: سلوكنا الفردي، أم سلوكنا الإداري، أم سلوكياتنا المؤسساتية، وفي التربية والتعليم، وداخل العائلة، وسلوكنا السياسي، وسلوكنا الدولي. وهذا لا يتحقّق إلاّ إذا تعرّفنا إلى المفاهيم القرآنيّة بشكل صحيح، نساءً ورجالاً. هذا الاتجاه هو الذي ينبغي للبحوث أن تسير فيه.
من النقاط المهمة، في الأعمال البحثية القرآنية، أن على الفرد، الذي يريد اتباع القرآن، إعداد فؤاده ونفسه لمعرفة الحقيقة القرآنية الخالصة واتباعها. بمعنى أنّ عليه أن يطهّر قلبه ليصبح جاهزاً لتقبّل الحق والحقيقة من لسان القرآن. أما إذا كان مولعاً بالمباني غير الإسلامية والإلهيّة، ثمَّ واجه القرآن فلن ينتفع منه شيئاً. يقول القرآن:
﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ (البقرة: 26)، إن الهداية بالقرآن أمر معلوم وواضح، ولكن لماذا الإضلال بالقرآن؟ السبب هو:
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ﴾ (التوبة: 125). الذين في قلوبهم مرض حينما يقرأون القرآن يتضاعف الرّجس في داخلهم.. الآيات القرآنيّة أو السور القرآنيّة تزيدهم رجساً وقذراً. فما هو الرجس؟
*حتى نرى نور القرآن
حينما يقول القرآن ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ (الحج: 53) فما هو هذا المرض؟ إنها الأمراض الأخلاقية. حين نكون مصابين بالحسد، والنوايا السيئة، والحرص، والتكالب على الدنيا، وحين تتغلب علينا الشهوات وطلب السلطة، وحين نسحق الحق ونتجاهله ونكتمه، عندها لن ننتفع من القرآن. وسوف نتلقّى من القرآن نقيض الشيء الذي ينبغي أن نأخذه منه. وحينها يجب أن نلجأ إلى الله. ينبغي التقرّب إلى القرآن بطُهر لتؤثّر الأنوار القرآنيّة في قلوبنا، ولنستطيع الانتفاع منها، إن شاء الله.
النقطة الأخرى هي ضرورة الاهتمام بالمشاريع التأسيسيّة في البحوث القرآنية. فليس كل من هو على معرفة باللغة العربية يستطيع فهم جميع ما في القرآن. لا بد أولاً من الأنس بالقرآن نفسه، ولا بدّ من الاندكاك بمجموع آيات القرآن. فتلاوة القرآن أكثر من مرة، والتدبّر الشخصي فيه، أمور تساعدنا في البحث عن الحقائق القرآنية، لنصل إلى نتائج جيدة حول ما نبحث عنه. لذلك كان الأنس بالقرآن أمراً ضرورياً.
*أمور مؤثرة في البحوث القرآنية
أضف إلى ذلك، كيفية استخدام القرآن. فالبحث القرآني غير ممكن من دون التعرّف إلى مقدمات فهم القرآن ومبادئه، كالمعرفة باللغة، ودقائقها، وأحوالها، والتعرف إلى بعض مباني أصول الفقه. هذه مقدّمات وأدوات ينبغي فهمها، كما يجب التعرّف إلى الروايات والأحاديث ذات الصلة بالآيات القرآنية. هذه كلها أمور مؤثّرة في البحوث القرآنية.
*صروحٌ شامخة
العلوم الإنسانية الغربية تُبنى على رؤية كونية أخرى وعلى فهم مختلِف لعالم الخِلقة، فهي تقوم غالباً على الرؤية المادية. إننا نأتي بالعلوم الإنسانية على شكل ترجمات من دون أن نُعمِل أي بحث فكري إسلامي فيها، وننشرها في جامعاتنا. والحال أنه يجب تحرّي الموضوع أولاً في البحث القرآني. وينبغي التفطّن لإشارات القرآن والبحث عن مباني العلوم الإنسانية فيه واستخراجها. وهذا عمل أساس. إذا حصل هذا عندئذٍ يستطيع المفكرون والباحثون والمتخصصون في العلوم الإنسانية المختلفة تشييد صروح شامخة.
* كلمته دام ظله في ذكرى ولادة السيدة المعصومة 20/10/2009م.
1- فضائل الخمسة، ج1 ص117.