ولاء إبراهيم حمود
عندما وقفت "أميرة" على شرفة المنزل المواجهة للجبل الرفيع، أحسّت بنسائم أيلول تدعوها للتدثُّر بالحِرام الصوفي المرمي بإهمال على الكرسي الأبيض البعيد عنها خطواتٍ قليلة. أوقف إحساسها المستجد بحركةٍ مبهمةٍ بين الأشجار قرارها باللجوء إليه، فشدّت قامتها وحدَّدت باتجاه الجبلِ نظرها...
فاجأها من خلفها صوت شقيقتها "صباح" ممازحاً: "إلامَ تنظرين بكل هذا التركيز؟ إلى شادي الألحان الغرّيد فوق أفنان الشجر"؟ فهمت أميرة إشارة أختها الممازحة واستدعتها صامتة، وعندما اقتربت أذن صباح من شفتيها مصغية همست "أميرة" بجدية: "لا يا عزيزتي، أركّز على أمرٍ آخر أكثر أهمية.. فأنتِ تعلمين أن شادي الألحان وصاحب القصيدة العصماء كما يطيب لكِ تسميته أحياناً سيزورنا الليلة بمعية أسرته، ولكنني أشعر أن "الإخوة" قد عادوا، انظري هناك" وأشارت بيدها إلى شجر يتحرك ببطء لا يكاد يُلحظ من تلك المسافة... ولم تفهم صباح فأوضحت همساً: "ستمرّ هذه الأغصان المتحركة بعد قليل وأنا أودُّ أن أطمئنّ على سلامتهم غصناً، غصناً.. فقد فاجأتني رؤيتهم في ذهابهم.. أرجو أن يعودوا جميعاً سالمين إلى أشجارهم... إلى حدائقهم الطيّبة..
بعد قليل، سنسمع صوتاً بالغ الرهبة ولكن ربما لن نرى الصورة، فهي ستشع هناك خلف الجبل في الجهة المقابلة، احمهم يا ربّ وأعدهم جميعاً سالمين، غانمين". وفهمت "صباح". اكتست ملامحها جديةً مناسبة وأردفت: "هكذا إذاً، إنهم يمرون من هنا دائماً؟ ليتنا نستطيع مساعدتهم بشيء، إعطائهم ماءً أو زاداً أو أي شيء". إزاء هذه الأمنية غضت أميرة بصرها واكتست وجهَها حمرةُ الحياء وهي تعترف بسرٍّ بسيط، "أنا ما أعطيت "لشادي الألحان" فرصة لو لم يكن واحداً منهم ولكن صدّقيني إنه الآن ليس معهم. أمس أخبرني أنه لن ينتظر نهاية محرم الحرام لإعلان خطوبتنا، بل سيعلنها الليلة كي نحضر مجالس العزاء سوياً"... وأوقف أذان الظهر تعليقاً ظهرت تباشيره على ملامح "صباح" عندما بدأت أميرة تفك أزرار ثوبها الشرعي وهي تتجه إلى الداخل بعجلة قائلة: "دعيني أَسبقكِ اليوم إلى الصلاة، أرجوك". لا صرخت بها "صباح" أنتِ لم تحزري".. سأصلي كعادتي قبلكِ. تابعي أنت مراقبة أغصانك العزيزة، أمّا أنا"... فدفَعَتْها أميرة بحركة بطيئة إلى الوراء: "أرجوكِ دعيني أصلي أولاً. راقبي عني. أخبريني حين أنتهي كم غصناً متحركاً رأيت. سأقول لكِ ماذا تفعلين فيما بعد. وعندما يمرون سخِّني لنا الملوخية لنتغدى قبل أن أوكل إليك هذه المهمة فأنا مشغولة بالتحضير لسهرة الليلة تعلمين أهميتها عندي".
ودخلت أميرة الدار. كما كانت صباح تسميها وانشغلت "صباح" بالمهمة التي أوكلتها إليها، فهي لا تقل عن "أميرة" تقديراً لهذه الأغصان النضرة... وعندما انتهت مهمتها بمرورهم الحذر على مرمى حجرٍ من الشرفة وأحصت عيناها بصمتٍ عددهم، دخلت من البوابة الثانية المؤدية إلى المطبخ... وعندما وصلته وأشعلت الغاز تحت طنجرة الملوخية، مدَّت رأسها باتجاه مصلَّى "أميرة"، لمحتها ترفع يديها قانتةً فقالت موجِّهة الكلام لأختها خديجة وأمها اللتين فرغتا للتو من صلاتيهما: "لقد مروا.. كانوا ثلاثة فقط. كم كنت أحلم في طفولتي، لو تصل يدي إلى شجر الجبل الرفيع فأمسك أغصانها. كنت أشعر أثناء وقوفي الطويل على الشرفة أنها بمتناول يدي، ولكنها كانت ترتدُّ إليّ فارغة عند كل محاولة. أمّا اليوم، فقد طالتها عيناي.. لله درُّكِ يا أميرة.. كم أخفيت عني من أسرار جميلة مثلك". وعندما همَّت الأم بالإجابة، لأنها لاحظت استغراق أميرة في صلاتها، سمعت صوت انفجار آتياً من خلف الجبل، أعقبه بعد ثوانٍ أصوات قصفٍ قريب. فجأة تزلزل البيت وتهاوى كل شيء. ولم تعد صباح تذكر إن كانت أمها قد نبست ببنت شفة. فجدران البيت كفت عن الاهتزاز بعد أن هوى سقف المصلَّى.. وأميرة تحته بثيابها البيضاء. وقد بدأت بقعة حمراء تتسع عليها.. وخديجة مرمية في حضن أمها. هالها المشهد.
وذهلت لدقائق اكتشفت بعدها أن خديجة قد فارقت الحياة في حضن أمها.. وأن أميرة قد فارقتها فوق مصلاها وما زالت يداها مرفوعتين في حال القنوت.. لم تدرِ صباح إن كانت قد أصيبت أم لا ولا كيف راحت تنتقل بين أختيها. رفعت خديجة من حضن أمها التي غرقت في ذهولها عاجزةً عن النطق، ولكنها تعاونت آلياً مع صباح في وضعها على الكنبة... لتوجّهها بعد قليل أميرة في ثيابها البيضاء باتجاهها الذي اتخذته بنفسها قبل دقائق.. نحو القبلة.. نحو زاوية الجبل الرفيع التي تشكل مع الأفق اتجاه صلاة.. وخط عودة آمناً للأغصان المتحركة.
وعندما وصلت صباح بحديثها إلى هذه النقطة، التقطت أنفاسها، ومسحت دموعاً نادراً ما رأيتها في عينيها النجلاوين، فصباح قوية لا تبكي على حدّ علمي ونادراً ما تخبرني حدثاً حميماً كهذا، فسألتها وأنا أناولها منديلاً وكوب ماء "استشهدت أميرة إذاً وأخذت معها سر الأغصان المتحركة والمهمة التي كانت ستوكلها إليكِ". لا أجابتني وهي تروي ظمأ حزنها العتيق: "لقد زارنا شادي الألحان الذي كان ينتظر مساء ذاك اليوم لخطبتها وأخبرني بكل شيء. لقد كانت تعرف عددهم في ذهابهم وفي إيابهم وتبلغه كي يعمل حالاً على إسعاف غصنٍ جريح أو سحب جثة شهيد، كي لا يأسرها الذئاب المتمركزة في موقع السويداء. وقد تأجلت مهمتي التي أوكلتها إليّ أسبوعاً واحداً فقط. وقد شكرت الله طويلاً أنني سمحت لها أن تسبقني بالصلاة في ذلك اليوم كأن قلبها كان دليلها سبحان الله". وشادي الألحان.. ماذا فعل بعد استشهادها؟ "غادر القرية نهائياً باحثاً عن بداية حياة جديدة في قرية أخرى، بعد أن ترك قصيدته "العصماء" أمانة في وجداننا وقد ألقاها في أربعينها معلناً لها بعد استشهادها وعلى الملأ حباً كبيراً مقاوماً باقياً في قلبه إلى الأبد". إلى هنا سكتت "صباح" أما أنا فقد وجدت في قلب هذه السيدة صورة لم يمحها الزمن المتراكم من شغاف قلبها: خديجة ترتفع استشهاداً إلى قلب أمها، وأميرة ترتفع إلى استشهادها قانتة في ثياب الملائكة.
(*) هذه القصة تحية لروح الشهيدتين خديجة وأميرة حسين هاشم من بلدة عربصاليم اللتين استشهدتا أثناء القصف الذي استهدف البلدة من موقع السويداء في 23/ أيلول/ 1985.