نسرين إدريس قازان
لليالي تموز، عنده، طعمٌ آخر من السهر، ورائحة البارود فيه أشهى من الياسمين السابحِ على وجه بركة ماءٍ تحتضنُ في جوفها القمر. لنسائم تموز المتسللة من ثقوب الحرّ انتعاشُ الرمال الساخنة عندما يغسلها موج البحر. ذكريات تدغدغ حواسه بقصائد رقيقة، وهو لم يكتب الشعر في يومٍ، ولا هام في أودية الخيال الشريدة. لرنين الهاتف عنده في تموز لحنٌ آخر، استعاره من أوتار تلك اللحظة التي رفعَ فيها السمّاعة ليخبره صديقه بخبر "أسر الجنديين"، فهو يبغض متابعة البرامج التلفزيونية الصباحية التي تضطره للتنقل بين القنوات ليسمع خبراً واحداً من وجهة نظر الأطراف المختلفة. لذا كان يفضّل أن يقلّب صفحات الجرائد في دقائق الاستراحة التي يمنحها لنفسه.
يومها، وضع السماعة، وأطفأ سيجارته، وأسرع إلى منزله ليهيئ حقيبته ويتوجه جنوباً. وصل إلى مركز عمله المحدد له في الجنوب قبل الساعة الخامسة عصراً، وكان العدو الإسرائيلي قد بدأ بقصف المناطق المحاذية للشريط الحدودي، وبعض الطرقات الرئيسية في محاولة لمنع وصول الأسيرين إلى حيثُ حدد سماحة السيّد في مؤتمره الصحفي الأول: "في مكانٍ بعيد، بعيد جداً..". وبدأت الحرب. كان ورفاقه يهيئون منصات الصواريخ، وينتظرون الأمر برميها إلى "كريات شمونة" و"كرمائيل"، و"حيفا" و"ما بعد، ما بعد حيفا"، وهو يتمنى لو يضع قلبه صاروخاً ليطلقه إلى كل زاوية محتلّة، فيُبيد إسرائيل من الوجود. ترقصُ أصابعه فرحاً وهو يضغطُ على زر إطلاق الصواريخ قبل أن يطلق ساقيه للريح، وهو يصرخُ بأعلى صوته: "إلى ما بعد ما بعد حيفا".. فلهذه الجملة وقع خاص في قلبه، فقد اعتبر أن سماحة السيّد حسن نصر الله حفظه الله قد أفرج أخيراً عن الصواريخ الراقدة في الصناديق القديمة، والتي هي ولا شك، أكثر من عشرين ألف صاروخ! لهذا كان يصرخ لرفاقه "أنتم حيفا، وأنا ما بعد بعد!".
وفي يومٍ زمجرَ فيه حرّ آب، والتاع قلبهُ من العطش وهو عائدٌ من رمي الصواريخ لوحده بعد استشهاد رفيقيه، برق نورٌ باهر أمامه ودوى رعدٌ مزّق أذنيه، واختفى الوميض خلف سوادٍ قاتم. كان الجرحُ ساخناً عندما فتح عينيه، فعرف أن المدة التي غاب فيها عن وعيه قصيرة جداً. جرّب أن يحرّك جسده، فلم يستطع. وكانت الصورة قد اتضحت أمام غشاوة عينيه، فوجد نفسه عالقاً تحت ركام المنزل الذي كان بالقرب منه.
أخذ نفساً عميقاً، وجرّبَ أن يسحبَ جسده، ولكنه كان عالقاً بطريقة يصعب الإفلات منها، فظلّ يحاول حتى غلبته الأوجاع والتعب، ويده المصابة قد نزفتْ بشدة. عصبَ الوجع رباطه عليه، وراح يشدّ عليه كالأفعى، فأغشي عليه أكثر من مرة، وجسده كقطعة اسفنجٍ مرمية في بئرٍ باردة، لشدة الحمى التي عصفتْ بكيانه، وسمعَ صوتها في أذنيه: "عندما تتألم تذكر أن الأرض البور لا يمكن أن تزرع إلا إذا انغرس المحراثُ في أعماقها، لهذا فهي تتألمُ لتنبت الزرع المثمر"، وشعر بيدها تمسحُ شعره: "استيقظ.. افتح عينيك للشمس".. ابتسم ووجه أمه المتوفاة يكادُ يلامس وجهه. فتح عينيه، وجال ببصره في أرجاء المكان الضيّق، وجفاف حلقه أيبس نبضَ فؤاده. كانت قربة الماء لا تزال معلّقة على خاصرته، فمدّ يده بصعوبة وانتشلها، وبلَّل شفتيه قبل أن يغشى عليه من جديد. أيقظه صوت صاروخ انفجر بالقرب منه. وكلما وجد في جسده بعضاً من القوة والعزيمة جرّب الإفلات من الركام، ولكن هيهات! ثلاث ليالٍ قضمتْ أنينه البعيد، ولا شيء حوله سوى هدير الطائرات الحربية والاستطلاعية، وصوت القذائف. راح يتذكر وجوه الرفاق من الشهداء، ويستجدي من الذاكرة همس أصواتهم، والمواقف التي جمعتهم، حتى أشعل الشوق موقده في فؤاده. وكلما استعاد وعيه، دعا الله أن يمنّ عليه بالشهادة، وأن لا تزيح أهداب عينيه السواد الجميل من أمامه..
وبينما هو يتقلّب بين كفي الألم، سقطَ صاروخ قريباً جداً منه، فنزفت أذناهُ وأنفه، وتناثرت الحجارة والغبار عليه، وغاب عن الوعي من جديد.. كان صوت الطائرة الحربية بعيداً عندما رفع أهدابه بصعوبة.. بانت بعضُ القطع الزرقاء من بين غيم الغبار الذي تسبب به الدمار.. وشعر بنسمة عليلة حرّكت نشوة الحياة بداخله، فنظر حوله ليجد أن الصاروخ الذي سقط بالقرب منه قد حرره من الركام. لم يجد القُربة، فعضّ على لسانه، وبدأ يمشي كهائم على وجهه، يرتاحُ تارة، ويزحف أخرى، ويُغشى عليه مرات، إلى أن وصل إلى أقرب نقطة للمقاومة، وما إن شعر أنه بأمان حتى غاب عن الوعي من جديد. سمع صوتاً يناديه، بعد أن ارتعش جسده من البرودة التي انسابت على وجهه: "حمداً لله على سلامتك يا "ما بعد حيفا".. نظر إلى الوجه الذي ارتسم أمامه، وبصعوبة سأله: "أين صرتم؟ هل ما زلتم في "ما بعد، بعد.." ؟ ضحك الشاب قائلاً له: لا، نحن الآن في "إذا قصفتم عاصمتنا سنقصف عاصمتكم".. أغمض عينيه من جديد وهو يتمتم: "يجب أن أرتاح قليلاً، وداووا جرحي بسرعة، فلن يقصف أحد (تل أبيب) غيري، فبيننا حساب قديم"!
(*) عن قصة حقيقية حدثت مع أحد المجاهدين في حرب تموز 2006.