إن الشهادة هي حجّة الله على الناس..
وللشهادة مراحل ومراتب. بالصلاة يكون المؤمن شاهداً وشهيداً، والباذل دمه حتى تقام
الصلاة لله في الأرض هو شاهدٌ وشهيدٌ. فالحجّة الأقوى على الناس يوم الدين وفي
الحياة الدنيا هي حجّة الشهيد. والشهداء هم الميزان الذي توزن به أعمال العباد يوم
القيامة.. فالشهادة كالنبوة بل أكاد أقول الشهادة روح النبوة. ليس من نبيّ في الأرض
إلا وهو شهيد. لذلك كان للنبيين عليهم السلام أعلى المراتب عند الله لأنهم كانوا
جميعاً شهداء. وليس من الضروري أن يُقتل الإنسان حتى يكون شهيداً.. فالشهيد هو
الصادق في القول والعمل والنيّة، والذي يكون كما علانيته لله سرّه أيضاً لله، والذي
يكون استعداده النفسي للموت وللقتل في سبيل الله في أعلى مراحله وأعلى مراتبه
باستمرار، وقد يوفق للقتل وقد لا يوفّق...
* شهيد على الأجيال
ولكن من الشهداء من تعلو بهم مراتب الشهادة، فيكون الواحد منهم شهيداً على جيله
وعلى الجيل الذي يليه. وقد تستمر شهادته فيكون شهيداً على الأجيال جيلاً بعد جيل..
الإمام الحسين عليه السلام هو شهيد دائم الشهادة إلى يوم الدين. هذا ما يحدّثنا عنه
الرسول صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام حسب الروايات، ومنها الحديث
المعروف عن أم سلمة - وهي إحدى أمّهات المؤمنين المعروفات - التي تقول: "أمرني
الرسول يوماً أن لا أُدخل عليه أحداً لأنّه يريد أن يستريح. فجاء الحسين عليه
السلام وكان طفلاً فدخل مسرعاً ولم أتمكّن من أخذه بيده لمنعه فتبعته سريعاً،
فوجدته على صدر جدّه، يحتضنه ويبكي، ولما سألَتْ أمّ سلمة عن هذا الأمر أخبرها رسول
الله صلى الله عليه وآله بما كان قد بلّغه إياه جبرائيل". وفي بعض الروايات تؤكّد
أن تصرف الرسول صلى الله عليه وآلهالخاص حيال الحسين: تقبيله في نحره وفي صدره،
وإكثار هذا العمل كان يلفت الانتباه، فتسأل الزهراء عليها السلام عن هذا الأمر
فيقول إنّه يقبله في موضع السيوف وفي موضع سنابك الخيل، ثم تسأل الزهراء عليه
السلام أيكون ذلك في عهدي، في أيّامي؟ فيقول لها النبيّ صلى الله عليه وآله: لا وفي
زمن يكون خالياً منّي ومنكِ ومن أبيه وأخيه، ثم تسأل كأيّ أمّ: من ذا الذي يُقيم
عزاء هذا القتيل؟ فيجيبها رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله سبحانه وتعالى
سيُقيّض له أمماً وأتقياء صالحين يقيمون عزاءه إلى يوم الدين (1).
* استمرار الشهادة
أنا أفهم من إقامة العزاء واتصاله واستمراره استمرار هذه الشهادة واتصالها إلى يوم
الدين. قال الإمام الحسين عليه السلام: "فليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقاً. إنّي لا
أرى الموتَ إلا سعادةً والحياةَ مع الظالمين إلا برما" (2). بهذا الموقف وبهذا
القرار نستطيع أن نحفظ الإسلام. الإسلام قد يسمح بالتفكير الشخصي في مواضيع كثيرة
لكن لا يجوز أن نفكّر بالأمن الشخصي عندما نكون في موضع جهاد الأعداء.. يجب أن
نفكّر جميعنا كواحد.. فبيوتنا جميعاً واحدة.. وإذا هُدّمت فلتهدم جميعها أو أن تبقى
جميعها قائمة على أصولها. رؤوسنا يجب أن تكون رأساً واحداً.. فلان من الناس يُسلِّم
رأسه عبر فلان أو عبر الموقف الفلاني.. وفلان يحافظ على كرامة بيته عبر الأسلوب
الفلاني هذا أمرٌ غير جائز شرعاً.
لم يعد باستطاعة أي شخص أن يقول إنّه لا
يستطيع أن يتحرّك أو إن داره قد تهدّم.. فدار عليّ بن أبي طالب عليه السلام قد
هدّمت وأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله قد ذبحوا وبنات الرسول قد أُخذن سبايا..
ونحن نعتبر أن ثورة الحسين عليه السلام ابتدأت يوم العاشر ولم تنته يومها كما يزعم
بعضهم.. وهذه الراية لم ولن تسقط أبداً، بل ستبقى إصبع اتّهام دائمة لأنّه لا حفظ
لشيء، لا لدار ولا لأولاد ولا لأموال، في مقابل حفظ الإسلام.. الإسلام أعزّ شيء
وأهمّ شيء.. كل شيء فداء الإسلام يهون... هذا هو المبدأ الصحيح.. لم يترك الحسين
عليه السلام لمعتذر في الله عذراً. ويكفي أن نتعلّم ونحن نقيم عزاء الحسين عليه
السلام أن الإسلام أعزّ من أيّ شيء وأهمّ من أي شيء في الأرض. أسأل الله أن يوفّقنا
لحفظ الإسلام ونصرة الإسلام.. والسلام عليكم.
(*) من خطبة للشيخ راغب حرب رضوان الله عليه ألقاها بتاريخ 14/10/1983.
(1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 44، ص 293.
(2) المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة، السيد شرف الدين، ص 226.