تختلف الثقافات بين الشعوب والأمم، ولكنَّها تتّفق على
جملةٍ من المسائل وإن اختلفت في تطبيقاتها. وما وجِدَت أمّة من البشر، إلا شكَّلت
قداسة الشهداء جزءاً من مكوّناتها الثقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة. وكلُّ أمّةٍ
ترى أنَّ لهؤلاء الشهداء الذين بذلوا أغلى ما يملكه الإنسان، وهي روحه التي بين
جنبيه، حقّاً واجباً عليها أداؤه. ولكن تختلف الأمم في النظر إلى حياة الشهداء بعد
موتهم وطريقة إكرامهم وأداء حقِّهم.
والإسلام الذي جاء به رسول الإنسانيَّة محمد
صلى الله عليه وآله أعلى من مقام هؤلاء الشهداء، وجعل لهم الدرجة الرفيعة وأمر
بإكرامهم وإعلاء شأنهم. فالإسلام في البدء أعطى للحياة الأخرويّة القيمة الأساس
وجعلها المستقرّ الأبديّ ودار البقاء، وعلَّم أتباعه النظر إلى هذه الدنيا على
أنَّها دار فناء وزوال، واعتبر أنّ الفوز في الحياة الأخرى هو الفوز الحقيقيّ الذي
يُمكن أن يناله الإنسان. من هنا فإنّ الشهيد يحيا حياةً حقيقيّةً لا يَنظر بعدها
إلى الدنيا إلا كموتٍ كُتِبَ له الخلاص منه. كما أعطى الإسلام لحظة الموت
التي يَنظر الإنسان إليها بطبعه المتعلِّق بهذه الدنيا نظرة سوء بُعداً مشوِّقاً
عندما أبان عن حقيقتها، وأنَّها لحظة لقاء الله عزّ وجل، لقاء المحبِّ بالحبيب الذي
كان ينتظره، فكانت لحظةً منتَظَرةً ينتظرها المؤمن بشغفٍ وشوق. ولذا لا تكون رغبته
في العودة إلى هذه الدنيا إلا ليُكتب له أن يستشهد ثانية وثالثة حتَّى يُعيد إلى
نفسه فرحة اللقاء التي عاشها في لحظة الشهادة. وأعلى درجة في هذا اللقاء
عندما يكون لقاءً مضرَّجاً بدمٍ بُذِلَ في سبيل الحبيب ورضوانه. وهذا المقام الذي
يُطلق عليه مقام الشهادة، هو ما كان يَطمع به حتَّى الأولياء الصالحون الذين كانوا
في درجة العصمة أيضاً. وقد نظروا إليه على أنَّه مقام البُشرى ومقام الشكر، البُشرى
برضوان الله، والشكر لله عزَّ وجل على التوفيق الذي ناله الإنسان بأن رزقه مقاماً
ليس فوقه من برّ.
وإذا كان البرّ هو أداء الحقِّ على أتمِّ وجه، فإنَّ الشهيد الذي نال أعلى مقامات
البرِّ هو من أدَّى حقَّ صاحب الحقِّ بأعلى وجه وأتمِّ صورة. وكلَّما كان عطاء
الإنسان قبل مقام الشهادة أعظم كانت درجته في الشهادة أرفع؛ لأنَّه بذل الكثير قبل
أن ينال المقام العظيم، فضحَّى في حياته قبل أن يضحِّي بحياته. فكيف بالشهيد إذا
كان عالماً بذل علمه في سبيل أن يُنير للناس طريق الهدى، وكيف بالشهيد إذا كان
باذلاً يَعمل بصمت بعيداً عن صخب الدنيا منصرفاً إلى أداء تكليفه على أفضل وجه
وبأتمِّ صورة. وكيف بالشهيد إذا كان أثره في هذه الدنيا واسعاً معطاءً يُغدق على من
بَعده نوراً بعد نور، فلم يتركهم إلا وقد بنى منهم أباة يبذلون مهجهم في سبيل الله.
أوليس هؤلاء أحقُّ بالإكرام من الأحياء كافّة؟ أوليس هؤلاء الذي يستحقِّون أن يقف
الإنسان مع نفسه وقفة تأمّلٍ ليرى عظيم شأنهم وعلوّ درجتهم؟ إذا كانت العظمة
الحقيقيّة هي عند الله كما نعتقده فإنَّ هؤلاء عظَّمهم الله عزّ وجل فقال:
﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾
(الحديد، 19). وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.