زينب الطحان
يؤكِّد أنَّ الاستشراق ليس مهنته، وأنه يستوحي قصص
رواياته التاريخية من عبق التاريخ الشرقي والعربي، خصوصاً أنَّه ولد وعاش مدة طويلة
في مصر. إنه الروائي الفرنسي جيلبير سينويه، الذي كتب رواية طويلة عن الشيخ الرئيس
ابن سينا، وقدَّمه إلى الجمهور الغربي. هذه الرواية كتبت بالفرنسية وترجمت إلى
العربية وعدَّة لغات أخرى.
سينويه صاحب مواقف إنسانية تتسَّم بروح مناضلة قال ذات
مرة كلمة حق في وجه باطل، حين قال: إنَّ "إسرائيل هرطقة وخطأ من الأخطاء التاريخية
الرهيبة التي ارتكبت في القرن العشرين". ولم يهتم لردود الفعل الغاضبة التي هاجمته
بشدة. ويقول سينويه إنّ للشرق مكانة عالية لديه رغم إقامته في باريس: "غالبية كتبي
تدور أحداثها في مصر.. كان جدي يحكي لي قصصاً وأنا أستمد أسلوبي من ذلك القص. وأظن
أن الإنسان لا يمكن أن يتنصل من طفولته. وأريد أن أحتفظ بالجانب الشرقي بشخصيتي
وإبداعي". وأضاف أيضاً: "أنا لدي هوية مزدوجة في جانبها الشرقي والغربي، وأقبل هذين
الجانبين من حياتي. ولعل الجانب العاطفي مني هو شرقي والجانب الفكري فرنسي الأصل.
وهذا رائع لأنه يسمح لي بأن أتخذ مسافة من الشرق ومسافة من الغرب كلما تطلعت إلى كل
منهما". "ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان" هو عنوان الرواية التاريخية التي تحكي
سيرة هذا العالم والطبيب والشيخ والفليسوف الفارسي المسلم، الذي انتقلت إنجازاته
العلمية إلى عصور متقدمة، واستفاد منها العلم الحديث بشكل رئيسي وهو مدين له بها.
هذا باعتراف كبار رجالات الغرب، فهذا السير ويليم أوسلر يقول عن كتاب القانون لابن
سينا "إنه كان الإنجيل الطبي لأطول فترة من الزمن". والعالم أوبرفيك يقول عنه "ولقد
كانت قيمته قيمة مفكر ملأ عصره... وكان من كبار عظماء الإنسانية على الإطلاق".
*ابن سينا رواية وسيرة
تقع الرواية في 479 صفحة من القطع المتوسط قسمها الراوي إلى واحد وثلاثين فصلاً
سماها بالمقامات. تتناول حياة بطل الرواية وهو الطبيب والعالم والفيلسوف نابغة ذلك
العصر ابن سينا، وذلك على لسان تلميذه أبي عبيد الجوزجاني الذي لازمه كظله وأحبّه
كما لم يحبّ أحداً فأفنى وقته ونفسه لخدمته وخدمة العلم الذي قدّمه للبشرية. ولكم
كان سيبويه بارعاً في وصف حياة ابن سينا الذي وصلت شهرته العلمية إلى أبعد آفاق
الأرض، وهو لم يزل مراهقاً في السادسة عشرة، وكيف أصبح طبيباً ومعلماً ومدرباً وهو
لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره إلى جانب سيرة رحلاته العظيمة وهو يتنقل من ملكٍ إلى
أمير والمصاعب التي تعرض لها من ظلم واستبداد الملوك وقصور نظرة بعضهم وغرور بعضهم
الآخر، وذلك بما تتضمَّنه من تفاصيل وتقلبّات ومغامرات لا تخلو من التشويق والإثارة.
لقد لعب الروائي لعبته بذكاء سردي وفطنة عجيبة حين منح الجوزجاني دورين في عملية
السرد، إذ إنك تراقبه وهو يظهره بجلاء ليصف الأحداث من خلال وجهة نظره فتجعله غاضباً
وعاتباً متألماً أو خائفاً وأحياناً أخرى يخفيه ويرتدي لباسه ويحرّكه ضمن الشخصيّات
بصفة محايدة باقتدار كما يفعل مع بقية أشخاص الرواية دون أن يشعر القارئ بوجوده
بينهم!. هما دوران متعاضدان في عملية السرد: دور الراوي المعلن المعتمد على ضمير
المتكلم، الذي يصف الأحداث من زاوية نظره الشخصية، ودور الراوي المستتر، الذي يتقمص
دور المؤلف ويدعي الحياد بتقديم نفسه ضمن سائر الشخصيات المتحركة داخل دائرة
الأحداث المروية. ولقد استفاد المؤلف من الصفحات التي وضعها الجوزجاني تلميذ ابن
سينا في عمله الروائي هذا. إنه ابن سينا الذي يقول عنه تلميذه أبو عبيد الجوزجاني:
"لم يزل اسمه ملفوظاً وذكره محفوظاً من سمرقند إلى شيراز ومن أبواب المدينة المنورة،
وبغداد، إلى أبواب الاثنتين والسبعين ومن فخامة القصور إلى ضواحي طبرستان ولم يزل
الصدى يترسل بأخبار عظمته في أرجاء المعمورة". لسنوات طويلة جاب ابن سينا إيران
يعمل عند الأمراء المحليين، وفي العام 1017م. عمل بصفته وزيراً وطبيباً لحاكم همدان،
ولكن بعد موته في العام 1022م، سجن لمدة أربعة شهور، ولكنه تخفَّى وهرب في زي أحد
الدراويش إلى أصفهان حيث أمضى حياته طبيباً لعطاء الدولة.
وذات مرة
استُدعيَ ابن سينا للكشف على أحد المرضى، وبعد فحصه فحصاً دقيقاً تأكَّد أنَّه لا
يعاني من مرض عضوي ولكن من حالة نفسية، وعندئذ استدعى رجلاً يعرف أحياء المدينة
وشوارعها خير المعرفة، وأخذ في سرد أسماء الأحياء اسماً اسماً بينما يضع ابن سينا
إصبعه على رسغ المريض ويجس نبضه ويلحظ التغيّرات على وجهه، حيث لاحظ عليه التأثّر
عند ذكر اسم حي معين، وعندئذ بدأ في ذكر شوارع ذلك الحي حتى اكتشف الشارع الذي
تأثَّر بذكره هذا المريض، وهكذا حتّى وصل إلى ذكر البيوت وساكنيها فرداً فرداً، حتى
ذكر اسم فتاة معينة، فعرف أن الشاب يهواها، وكان العلاج هو الزواج وتم بعده الشفاء.
*الاسشتراق في الرواية
وإن أكدَّ الراوي، كما أسلفنا، أنه بعيد عن التأثّر بالاسشتراق، إلا أنه وقع ضحية
هذا الفخ "الإمبريالي". ونأخذ عليه أنه لم يذهب في بحث تاريخي وعلمي ليوثق بعض
المعلومات التي ذكرها عن ابن سينا. فهو في الصفحات الأولى من الرواية يطالعنا بأن
بطلنا الشاب الفذ، كان هاوياً للنساء وأنه شارب للخمر بل محب لها رغم معرفته
بحرمتها وأنه كان إسماعيلي المذهب حيناً وحيناً آخر يذكر هجرانه لهذا المذهب. وأكثر
المصادر التاريخية التي تتحدَّث عن سيرة الشيخ الرئيس أبي علي الحسن بن سينا تشير
إلى كونه إسماعيلي المذهب نظراً إلى ما ورد في سيرته الذاتية التي أملاها على
تلميذه الجوزجاني من أنَّ أباه كان ممن أجاب داعي الإسماعيلية في بخارى. فالمظنون
جداً أنّ ابن سينا قد اقتفى أثر والده في الاعتقاد، غير أنَّ بعض العلماء ممن ترجم
له رجح أن يكون ابن سينا اثني عشرياً إمامياً لا إسماعيلياً وذلك بناءً على ما ورد
في بعض كتبه من قوله بالإمامة. وذهب إلى هذا الرأي المحقق المصري سليمان دنيا في
مقدمته لكتاب الإشارات والتنبيهات الطبعة المصرية. ويقول السيد حسن الصدر "أبو علي
ابن سينا، شيخ الحكمة في المشائين، حاله في الفضل أشهر من أن يذكر، وقد أطال القاضي
المرعشي في طبقاته الفارسية في الاستدلال على إمامية الشيخ الرئيس..
نعم
هو ولد على فطرة التشيع، كان أبوه شيعياً إسماعيلياً". وقد كان في مدة اشتغاله لم
ينم ليلة واحدة بكاملها ولا اشتغل في النهار إلا بالمطالعة. وكان إذا أشكلت عليه
مسألة توضأ وقصد المسجد الجامع وصلى ودعا الله عز وجل أن يسهّلها عليه ويفتح مغلقها
له.