سؤال يطرح بقوة في أوساط المفكرين والمثقفين، وكلٌّ منهم
يترنَّم بما يتوافق مع ميوله ونظرته للوجود. والسؤال موضع التجاذب له نكهة خاصة وهو:
الأديب الملتزم حرٌّ أم مقيَّد؟ بداية لا بدّ من بيان معنى الالتزام بدقة لكي لا
يلتبس الأمر على أحد. الالتزام غرسة طيبة تنمو في ذوي النفوس السويَّة والجبلاّت
الصافية، وأمّا من تشوّهت نفوسهم وانحرفت عن صفائها ونقائها فإنّ الالتزام لا يجد
إليها سبيلاً. هذه الغرسة الطيبة بيئتها ومناخها الطبيعي "وطن" يسطِّر قضاياه
المصيريّة بالدم الغالي. والأديب الملتزم يحتلّ مكانه في هذه البيئة، فتراه حاملاً
كفنه بين يديه، متشبثاً بسلاحه النازف حبراً، لا يبخل بساعات أيامه ولياليه في سبيل
خدمة هذا الوطن وقضاياه.
بعد الذي قلناه بحق الأديب الملتزم والالتزام، كيف يمكن
تصوّر الأديب الملتزم مقيداً؟
نحن نرى الحرية ترفل بين حناياه وتعيش بين أكنافه عزيزة ممجَّدة. أمّا القيود فهي
من حظِّ من يكتب بحبر مغمَّس بالخيانة للوطن والأمة عندما يكتب بتوصيات من جهات
عليا تملي عليه وقد تكون مخالفة لضميره ووجدانه. وإذا دقّقنا النظر جيداً فإننا
سنرى بكلّ وضوح مقام كلٍّ من الفريقين في أوساط المجتمع. مثلاً نحن نرى من يكتب وهو
كلّ يوم في شأن، وتتلوّن كتاباته بألوانٍ مختلفة تتوافق مع مصالحه الشخصية ومآربه
الفردية. نراه شخصية خالية من القيم والأصالة، ولا تحكمه أيديولوجيا واضحة تحدّد
مساره. وللأسف كلّ ما يرشح من قلمه لا يعدو إملاءات غيره، أو لا يصنّف إلا تحت
عنوان "الكتابات الهامشية" واللَّغوية التي لا تساهم في إثراء الوعي الاجتماعي، ولا
تعمل على تأصيله وتثبيته في نفوس وعقول أبناء المجتمع. ولا يظننَّ أحد أن المجتمع
غافل عن حقيقة أمثال هؤلاء، فالمجتمع يملك قدرة لا يستهان بها، من خلالها يقدر على
أن يشخّص ويصنّف هؤلاء في الخانات الملائمة. أمّا من يكتب وفق ما يمليه عليه ضميره
الإنساني الحيّ، فإنّنا نرى امتزاج كتاباته بالقيم الأخلاقية والوطنية المتميّزة
بالجوهرية والثبات والديمومة على مدى الدهور. هؤلاء يلقون احتراماً عالياً وتقديراً
كبيراً في الوسط الاجتماعي. وأبناء المجتمع أنفسهم الذين يعايشون كلا الفريقين،
يقارنون بينهما ويشعرون بالاشمئزاز اتجاه من يبيع ضميره بثمن بخس لا يتجاوز أعتاب
هذه الدنيا الدنيّة، وهم يعرفون حقاً أنّ هؤلاء ليسوا إلاّ علقة تمتصّ دماء الوطن
وتعيش على رفات أبناء الأمّة بينما من نذر عمره لأجل القضية فإنهم يرون أنفسهم
مدينون لهم في كل آن. بناءً على كل ما تقدّم، نستنتج أنّ الأديب الملتزم حرٌّ بكلِّ
ما للكلمة من معنىً، القيود لا تجرؤ على التقدم إلى ساحته، لأنّه حصنٌ منيعٌ
لقلعة حصينة إسمها الوطن، حفر على جدرانها بالأنامل الورديّة عبارات تختزن معاني
الوطن، حفظ الوجود، وصنع المصير. وإنّ كلّ قيد مهما كان وصفه أو نوعه يتقدم من
عالمه لن يلقى سوى القذف والتحطيم والانكسار.