كم من أصحاب القدرة والسلطة الظاهرية ممن لم يستنشقوا
نسمة حرية النفس الشخصية والاعتداد بها وهم أذلاء وعبيد للنفس وأهوائها، ويتزلَّفون
نحو المخلوق التافه؟. نُقل عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام أنه قال في حديث "إنّي
لآنَفُ أنْ أطْلُبَ الدُّنْيَا مِنْ خَالِقِهَا فَكَيْفَ مِنْ مَخْلُوقٍ مِثْلِي"(1).
أيها العزيز إن لم تشعر بالنقص في طلب الدنيا، فعلى الأقل لا تطلبها من إنسان ضعيف
مثلك. وافهم أنَّه لا حول للمخلوق في أعمال دنياك. فلو فرضنا أنك استطعت مع الذل
والامتنان المتكرر أن تكسب رأي الإنسان الذي تطلب منه إعمار دنياك فإن رأيه وإرادته
لا تكون فاعلة في مُلك الحق سبحانه. إذ لا يوجد أحد يتصرف في مملكة مالك الملوك.
فلا تتملق لتأمين حياتك الدنيوية المعدودة، وشهواتك المحدودة، تجاه مخلوق معدم. ولا
تغفل عن إلهك، وحافظ على حريتك، وارفع أغلال العبودية والأسر عن رقبتك، وكن حراً في
جميع حالاتك كما ورد في الحديث الشريف "إن الْحُرَّ حُرٌّ على جَميعِ أَحْوَالِهِ".
واعلم أنَّ الغِنى غنى النفس، وأنَّ عدم الحاجة من حالات الروح. لقد رأيت أناساً من
أهل الثراء والمال والجاه يتفوَّهون بكلمات يندى لها الجبين ولا يقولها المستجدي
المتهتك. إن المسكين هو الذي ضُربت على روحه الذلة والمسكنة.
إنَّ شعب اليهود
بالنسبة إلى عددهم يعدّون من أغنى الشعوب القاطنين على ظهر الأرض كافة، ولكنَّهم
يعيشون طيلة حياتهم في الشقاء والتعاسة والشدة والهوان، وتبدو على ملامحهم الحاجة
والفقر والذل والمسكنة، ولا يكون ذلك إلا من وراء الفقر النفسي والذل الروحي.
ورأينا في أصحاب الزهد وذوي الحياة البسيطة –الدراويش- أشخاصاً قلوبهم مفعمة بالغنى
والكفاف، ويلقون نظرة اللامبالاة على الدنيا وكل ما فيها، ولا يجدون أحداً أهلاً
للاستنجاد به إلا الحق المقدس المتعالي. وأنت أيضاً تمعّن وابحث في أحوال أهل
الدنيا وذوي الرغبة في الرئاسة، كي ترى ذلّهم وتزلّفهم وخضوعهم أمام الناس أكثر من
الآخرين.
إنَّ أدعياء الإرشاد والتوجيه، يتحملون الذلّ بعد الذلّ ويبدون الخضوع إثر الخضوع
في سبيل ترفيه بطونهم وفروجهم. إنَّ خضوع الحالة القلبية للمراد-المربِّي- الطالب
للدنيا، تجاه المُريد-المُربَّى- أكثر من خضوع قلب المُريد تجاه المُراد، رغم البون
الشاسع بين نوعية الإرادتين. فإن إرادة المريد روحانية وإلهية حتى إذا كان على خطأ
واشتباه –من جهة متعلق الإرادة- في حين أن إرادة المراد دنيوية وشيطانية. إن ما
ذكرناه بأسره هو الذل الدنيوي والمفاسد الدنيوية. فإذا ارتفعت الحجب تتجلى الصورة
الملكوتية للأسر في أغلال الشهوات، وسلاسل الرغبات النفسانية وأنها كيف تكون. ولعل
هذه السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً والتي أخبر عنها الله تعالى والتي تكون أصفاداً
وأغلالاً لنا في يوم الآخرة هي الصورة الملكوتية لهذا الأسر والرق في ظلّ أوامر
القوة الشهويّة والغضبية.
يقول الله تعالى
﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾(الكهف:49)
ويقول
﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ﴾
(البقرة:286). فما يصل إلينا في ذلك العالم هو صور أعمالنا. فلذلك مزّق
سلاسل الشهوة والأهواء المتعرجة بعضها على بعض، وحطّم أصفاد القلب، واخْرج من قيود
الأسر، وكن حراً في هذا العالم، حتى تكون حراً في ذلك العالم. ولولا ذلك لوجدت
الصورة الملكوتية لهذا الأسر حاضرة في ذلك العالم، واعلم أنها مؤلمة جداً.
إنَّ
أولياء الله رغم تحررهم التام من الأسر والرق، وبلوغهم الحرية المطلقة فإن قلوبهم
كانت مضطربة وكانوا يجزعون وينحبون بدرجة تثير دهشة العقول.