*البرامج والوضعية
إِنّ أوّل ما يتعيَّن التوقّف عنده في خصوص البرامج الإلكترونية، أثرها البالغ
الأهمية في وضعية المستفيد منها. وأعني هنا بالوضعية الدور الذي يقوم به المستفيد
أثناء تشغيله للبرنامج. فلقد أتاحت هذه البرامج فعلاً الانتقال بالوضعية تلك في
الاتجاه الإيجابي، وذلك بعد تجارب من الوضعيَّات السلبية مع الأجهزة الالكترونية
السابقة، كالتلفزيون، والفيديو، والسينما، وغيرها من وسائل العرض التي تجعل
المستفيد في وضعية المتلقِّي، الذي لا يملك أيَّة فرصة للتأثير المباشر في المعروض
أمامه. إنَّها المرة الأولى التي أصبح فيها بمقدور المستفيد عموماً، والمتعلّم على
وجه الخصوص، أن يتحكَّم، ضمن هامش معيَّن، بما يجري أمامه. وهذا أمرٌ حالت دونه
الإمكانيَّات والفرص السابقة، بالرغم من الحرص المتواصل عليه من قبل كبار
التربويِّين في التاريخ، لا سيما خلال القرن الماضي. ذلك أنَّ الطاقة التعلُّمية أو
القوَّة الإدراكيَّة، تزداد وتكبر كلما كانت تملك قوة المبادرة والتأثير، والعكس
صحيح، إنَّ هذه الطاقة أو القوة تتقلَّص وتخسر مع غياب فرصة المبادرة أو التأثير.
والفارق هائل بين تلميذ يُقاد إلى المعرفة الجديدة بواسطة وسائل العرض الإلكتروني،
وتلميذ يبحث بنفسه عن هذه المعرفة، بين تلميذ يتلقى المعرفة جاهزة، وآخر يسعى
لاكتشافها أو تركيبها. من حيث الشكل على الأقل يمكن القول إنَّ جلوس المتعلم أمام
جهاز الكومبيوتر، والمباشرة بتشغيل برامجه، من شأنه أن يمنحه وضعية فائقة الأهمية
على مستوى مسيرته العلمية.
*مضمون البرامج
أما الكلام في مضمون البرامج، فالاحتمالات متعدِّدة، ومتنوعة، وبعضها قد يضرب صميم
الوضعية التي كان لهذه البرامج الأثر في تطوُّرها. فالبرامج الالكترونية التي
تتضّمن معارك وهمية مخيفة، أو مغامرات خيالية، هذا النوع من البرامج لن يضيف قيمة
جديدة إلى معارف ومناهج المتعلمين، بل إنّها، وبحكم توتيرها للمشاعر، قد تسلب ما
قدّمته في البداية من قدرة على المبادرة والتحكُّم، فيصبح المتعلِّم أسير انفعالاته
غير المفهومة. وبهذه الطريقة لا تعود الوضعية إيجابية، كما ذكرنا، بل تتراجع إلى ما
كانت عليه في تجارب التلفزيون والسينما، مع هامش إضافي غير مؤثر على العموم. إنّ
مَثَل البرامج الإلكترونية السالبة للإرادة، المتوغلة في عالم الأوهام والأساطير،
كمثل الكثير من الأفلام التلفزيونية التي يدأب على مشاهدتها الكثيرون، لكنها لن
تضيف أي شيء مفيد في تجاربهم الحياتية، أو مسيرتهم العلمية، مع فارق خطير هو أنَّ
حجم الاستلاب الذي تمارسه البرامج يتجاوز بمفعوله ذاك الذي ينجم عن الأفلام، فضلاً
عن الأوقات المهدورة والأعصاب المتوتّرة. ممَّا تقدَّم أصبح من الواضح أنَّه ومع
توافر هذه التقنية فإن فرصاً هائلة قد مُنحت للجميع، لا سيما في مجال التعليم، لكن
العبرة في مضمون البرامج.
*البرامج الإلكترونية والمدارس
لقد وَعَت المدارس المتقدِّمة حجم الفائدة المتأتية من إدخال البرامج الإلكترونية
في عمليات التعليم، وهي الآن في حالة سباق وتنافس للوصول إلى المناطق الجديدة في
استخدام هذه البرامج، بل هناك توقُّعات جدّية عن استبدال الكتب والقرطاسية الورقية
بهذه البرامج خلال فترة قريبة لا تتجاوز العقد من السنين. والمشهد القادم للتلميذ
يتجلى في تخلِّيه عن حقيبته، وبالتالي استبدالها بحاسوب محمول يحتوي كلَّ مستلزماته
المدرسية، كتباً وقرطاسية، وغير ذلك من المواد المعرفية المفيدة. إنَّ هذه البرامج
بما تضمن من وضعية إيجابية في التعليم، حيث يتاح فيها للمتعلِّم أن يزاول دوره،
كمحور للعملية التعليمية، فضلاً عن قدرتها على تأمين فرصة كافية لتفريد التعليم،
ستنتقل بعمليات التعليم إلى مرحلة جديدة تختفي معها نسبة عالية من الغموض التي كانت
تكتنف تجارب التعليم السابقة والحالية.
*التحدِّيات المقبلة والمعضلات المزمنة
إنَّ أبرز التحدِّيات المقبلة تتمثَّل بنوع وحجم المعارف والمهارات والمواقف
المطلوبة من المتعلمين في المستقبل، فلم تعد المعارف المحفوظة في الذاكرة كافية،
كما لم تعد المهارات البدائية وافية، وكذلك المواقف التقليدية باتت بحاجة إلى
بلوَرَة جديدة. فالحصول على معارف جديدة، بل إنتاجها، غدا ضرورة ملحة. واكتساب
مهارات فنية وعلمية في مجال التقنيات والأبحاث والعلاقات لم يعد أمراً ريادياً، بل
واجباً عينياً في بعض الحالات، كذلك اتِّخاذ مواقف أصيلة في العلم والسلوك بات
يستلزم اجتهادات فكرية عميقة. إنَّ هذا النوع من التحدِّيات يضغط باتِّجاه تطوير
عمليَّات التعليم، بما يضمن تفعيلاً جديداً لطاقات المتعلِّمين، نحو أقصى إمكاناتهم
وقدراتهم. والبرامج الإلكترونية، الغنية والهادفة، من شأنها القيام بهذه المهمة.
أمَّا المعضلات المزمنة، التي تتمثل بالرسوب والتسرُّب الدراسي عموماً، والإخفاق في
تعلُّم اللغات الأجنبية على وجه الخصوص، فإنَّ إمكانيَّات هذه البرامج تعد بإنجازات
غير تقليدية في هذا الاتجاه. إنَّ عمليَّات التعليم والتعلُّم عندما تغدو واضحة في
خطواتها ومراحلها كافة، توفِّر فرصة جيدة للتحقيق في أسباب نتائجها السلبية
والإيجابية. والبرامج الإلكترونية من شأنها تقديم مسار تعلُّمي واضح، كما من شأنها
تقديم المعلومات عن سلوك المتعلم في هذا المسار، وطبيعة الإخفاقات أو النجاحات التي
حصلت فيه، بل هناك إمكانية لتوفير الدعم والعلاج ضمن المسار المرسوم. وعليه فكلُّ
شيء يدفع باتجاه التعلُّم، ولكل نمط من المتعلمين حاجاته ومعالجاته الخاصة،
والرواية بمجملها محفوظة، ولم يعد ثمة مجهولات يمكن ابتكار فرضيات خيالية حولها.
إنَّنا نفترض إمكانية الانتقال بالتعليم، مع هذه البرامج، إلى مستوى من الشفافية
يستطيع معها أهل المتعلِّمين محاسبة، بل مقاضاة، المدرسة عند حدوث أية عملية رسوب
أو تسرُّب دراسي، ومن دون مبالغة، يمكن أن نتوقَّع أحكاماً عادلة، وواضحة في
مبانيها، في هذا الشأن. وبذلك نكون أمام أول فرصة في التاريخ لمعرفة الجاني في
جريمة الرسوب أو التسرُّب الدراسي، بعد قرون عديدة من الضياع أو الظلم، بفعل عمليات
التعلّم الغامضة، القابلة لأي تفسير أو تأويل وتبرير.
*صورة المستقبل
نتوقَّع تنامياً سريعاً للصف الإلكتروني، في غضون العقد المقبل، والواقع ينتظر
أمرين رئيسَيْن:
الأول: إنجاز برامج إلكترونيَّة تغطي المناهج التعليميَّة المقررة بشكل كافٍ ومتقن،
والثاني توافر أجهزة إلكترونية (الحاسوب) بأسعار قريبة من أسعار الكتب الورقية.
فإذا ما تم ذلك فإن تحوُّلاً جديداً في عمليات التعليم سوف يحدث، ليتحقق بذلك أهم
تطوُّر على مستوى عمليات التربية والتعليم في القرون الأخيرة. لا نريد تجاهل كل
التأثيرات الجانبية لهذه البرامج، كما لا يمكننا استبعاد الاحتمالات السلبية لأي
توجّه فني جديد في التعليم، ولكن السر في هذه البرامج يكمن في معالجته غير
التقليدية لأكبر معضلة في فن التعليم، هذه المعضلة التي كتب التربويون حولها الكثير،
وجرب المعلمون فيها أكثر، من دون أن يتوصّلوا إلى نتائج حاسمة، عنيت بذلك معضلة
تفريد التعليم.