تناولت الأعداد السابقة خطر إذاعة الأسرار وأقسامها. وفي
هذا العدد، سنتحدّث عن الأسرار التي تؤثّر إذاعتها على حياة الجماعة، وأحياناً على
مصيرها، لنعرض كيف وصف أئمّتنا عليهم السلام الأشخاص الذين يكشفون هذا النوع من
الأسرار.
* أسرار المجتمع العام
من الأسرار ما يرتبط بالمجتمع كلّه والدولة، فلا يجوز كشفها إلّا للجهة المعنيّة؛
أي الدولة أو إحدى مؤسّساتها. وهي على قسمين:
1- أسرارٌ ضررها في عدم كشفها:
وهي ما يكون وارداً على المجتمع، ويُخاف عليه إن لم يُكشف للمسؤولين والجهات
المختصّة من أجل اتّخاذ القرار والإجراءات اللّازمة؛ فلا مانع من كشفها، بل ربّما
يكون لازماً وضروريّاً؛ لأنّ في كتمانها خطراً على المجتمع الإسلامي. وقد يكمن
الضرر في الصور الآتية:
أ- ما فيه فسادٌ: كمراكز نشر الفحشاء، أو الأفكار الإلحاديّة والمخالفة للدين، أو
الخمور والمخدرات.
ب- ما فيه أذى: كالخطر الأمنيّ من قبل الأعداء والمنافقين والمخالفين، أو الضرر
البيئيّ أو الاجتماعيّ وغيره.
ج- ما فيه مخالفة للشرع والقانون: كالمخالفات من قبل المسؤولين والماليّين في
الدولة، أو المؤسّسة الإسلاميّة.
2- أسرارٌ ضررها في كشفها:
وهي إمّا نقاط قوّة أو نقاط ضعف، وأهمّها: الأسرار السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة
والاقتصاديّة والعلميّة والاجتماعيّة والتكنولوجيّة والصناعيّة، التي إذا عرفها
العدو استغلّها في ضرب المجتمع الإسلاميّ.
جاء في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ عَيَّرَ
أَقْوَاماً بِالإِذَاعَةِ فِي قَوْلِه عَزَّ وجَلَّ:
﴿وإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِه﴾ (النساء:
83) فَإِيَّاكُمْ والإِذَاعَةَ"(1). قال المفسرون في تفسير الآية الشريفة: "كما
إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أخبرهم الرسول بما
أُوحي إليه من وعد بالظفر، أو تخويف من الكفرة، أذاعوه من غير حزم، وكانت إذاعتهم
مُفسدة، وهذا صريح في أنّ إذاعة الخبر إذا كانت مُفسدة، لا تجوز"(2).
يُبيّن الإمام الصادق عليه السلام معنى الإذاعة المقصودة هنا، بأنّها ما يُذاع ويصل
صوته إلى العدوّ، وليس ما وصل إلى الأصحاب والأنصار فقط، "... الإذاعة أن تُحدّث به
غير أصحابك"(3).
* كاشف السرّ كما يصفه الأئمّة عليهم السلام
1- كاشف السرّ: مارقٌ من الدّين
عندما يكون الحكم بيد الظالمين، تكون الدولة لإبليس -لعنه الله-، ويكون المؤمنون في
خطر، فيجب العمل بالسرّ والكتمان، ويحرم كشف الأسرار؛ لأنّها تتسبّب في قتل
المؤمنين. لذلك، عدّ الإمام الصادق عليه السلام كشفها خروجاً من الدين، كما في قوله:
"إنَّ الله عزَّ وجلَّ جعل الدِّين دولتين: دولة آدم، وهي دولة الله، ودولة إبليس
(... ...)، والمذيع لما أراد الله ستره مارقٌ من الدِّين"(4).
الحلّ في مثل هذه الظروف كان التقيّة مقابل الإذاعة. لذلك، نفهم التقيّة حينها
بأنّها حفظ أسرار المجتمع الإسلاميّ العامّة، كأسرار الأئمّة عليهم السلام وأسرار
المؤمنين؛ كي لا يؤدّي ذلك إلى وقوعها في يد الظالم، وسجن المؤمنين وتعذيبهم وقتلهم.
عن الإمام الصادق عليه السلام: "... والتَّقِيَّةُ وضِدُّهَا الإِذَاعَةُ..."(5).
2- كشف السرّ: شكّ وجحود
عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "من أذاع علينا حديثنا فهو بمنزلة من
جحدنا حقّنا"(7). المذيع والجاحد شريكان في عدم الإيمان وبراءة الإمام منهما، بل
ضرر الإذاعة أقوى؛ لأنّ ضرر الجحد يعود على الجاحد، وضرر الإذاعة يعود على المذيع
وعلى المعصوم والمؤمنين.
3- قاتل الأنبياء والأئمّة عليهم السلام
لا تتوقف نتائج كشف السرّ عند ما مرّ ذكره، بل تتّسع لتشمل سفك دماء المؤمنين
والأنبياء والأئمّة عليهم السلام وشيعتهم، كما عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه
السلام أنّه عندما تَلا هَذِه الآيَةَ: ﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ الله ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ
ذلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ (البقرة: 61) قَالَ: "واللَّه
مَا قَتَلُوهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ولَا ضَرَبُوهُــــــمْ بِأَسْيَافِهِمْ،
ولَكِنَّهُــــمْ سَمِعُوا أَحَادِيثَهُمْ فَأَذَاعُوهَا، فَأُخِذُوا عَلَيْهَا
فَقُتِلُوا، فَصَارَ قَتْلاً واعْتِدَاءً ومَعْصِيَةً"(9).
* جزاء كاشف الأسرار في الدنيا
1- سلب الإيمان: عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أذاع علينا حديثنا سلبه الله
الإيمان"(10).
2- الفضيحة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "فإنّه من تتبع عوراتهم (المؤمنين)
تتبّع الله عورته، ومن تتبّع الله تعالى عورته يفضحه ولو في بيته"(11).
3- الحبس والتعذيب: عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "مَنِ اسْتَفْتَحَ
نَهَارَه بِإِذَاعَةِ سِرِّنَا سَلَّطَ اللَّه عَلَيْه حَرَّ الْحَدِيدِ وضِيقَ
الْمَحَابِسِ"(12).
* جزاء كاشف السرّ في الآخرة
عن الإمام أَبي جَعْفَرٍ عليه السلام: "يُحْشَرُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
ومَا نَدِيَ دَماً فَيُدْفَعُ إِلَيْه شِبْه الْمِحْجَمَةِ أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ،
فَيُقَالُ لَه: هَذَا سَهْمُكَ مِنْ دَمِ فُلَانٍ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! إِنَّكَ
لَتَعْلَمُ أَنَّكَ قَبَضْتَنِي ومَا سَفَكْتُ دَماً، فَيَقُولُ: بَلَى، سَمِعْتَ
مِنْ فُلَانٍ رِوَايَةَ كَذَا وكَذَا، فَرَوَيْتَهَا عَلَيْه، فَنُقِلَتْ حَتَّى
صَارَتْ إِلَى فُلَانٍ الْجَبَّارِ، فَقَتَلَه عَلَيْهَا، وهَذَا سَهْمُكَ مِنْ
دَمِه"(13).
جعلنا الله وإيّاكم، من حفظة الأسرار، التي يُمتحن بها الإيمان.
1- الكافي، الكليني، ج2، ص369.
2- شرح أصول الكافي، المازندراني، ج10، ص33.
3- مختصر بصائر الدرجات، حسن بن سليمان الحلي، ص102.
4- الكافي، (م.س)، ج2، ص371.
5- (م.ن)، ج1، ص22.
6- (م.ن)، ج 2، ص 372.
7- (م.ن)، ص370.
8- بحار الأنوار، المجلسي، ج52، ص183.
9- الكافي، (م.س)، ج2، ص371.
10- (م.ن)، ص370.
11- (م.ن)، ص354.
12- (م.ن)، ص372.
13- (م.ن)، ص370.