نسرين إدريس قازان
اسم الأمّ: آمال حيدر.
محلّ الولادة وتاريخها: كفر تبنيت 12/2/1996م.
رقم القيد: 73.
الوضع الاجتماعي: عازب.
مكان وتاريخ الاستشهاد: تدمر 29/09/2017م.
هناك في تدمر، في التاسع من المحرّم، حيث رياح الصحراء حفرت وجوه رجال وتدوا
أقدامهم بين الرمال، فاخضوضرت قاماتهم، وصارت أناملهم نجوماً ترصّع الحياة.. هناك
في تدمر، اجتمعوا في صورةٍ أخيرة، بعد أن حزموا حقائب الرجوع، وبانتظار الحافلة
جلسوا يلطمون.
تصدّر وجه "عليّ" المبتسم تلك الصورة، ملامحه وُسمت بجمالٍ غريب، وابتسامته عكست
آخر خيوط الشمس، قبل تلبّد السماء بوشاحٍ أسود..
* عرسٌ من نوعٍ آخر
بعد أن اتّصل "عليّ" بأمّه، وأخبرها أنّه سيصل ليلاً، انهمكت طوال النهار بتحضير ما
يحبُّ من طعام، فقد مرّت أيام عصيبة عليها وهو بعيد عنها.. أيّام سيمحوها لقاء،
ومواعيد انتظرتها كثيراً، فبعد يومين حفل تخرّجه من الجامعة مُهندساً، وبعد شهر صفر
سيطلبون يد عروسه، وبذلك تكون قد فرحت بولدها فرحتين! لكنّ غروب الجمعة بدأ يُلقي
بحمرته في السماء، ولمّا يصل "عليّ" ولم يتصل بعد. وحدها الأخبار ظلّت تتوالى عن
مواجهة عنيفة يخوضها مجاهدو المقاومة الإسلاميّة في تدمر، بعد هجوم مجموعة كبيرة من
"داعش" على مواقعهم، مباغتةٍ حاقدة لم تسلب المجاهدين زمام المبادرة، فسارعوا إلى
ردِّ الهجوم.
* الراية الصفراء تخيّم على تدمر
ثلّةٌ من الثابتين المخلصين، عصَّبوا جباههم بـ"هيهات منّا الذلة"، وصرخ أزيز
رصاصهم: "لبّيك يا حسين". فها هي خيول العشق تصهل، وغبار الصحراء يعلو، والشهداء
يوصي بعضهم بعضاً بالراية الصفراء، فهي شمس لن تغرب طالما أنّ ساقية الدماء تروي
جذورها.
فشل هجوم داعش، وسقط مقاتلوه قتلى بالعشرات، وفاز المجاهدون بالنصر، ومنهم من فاز
بشهادة كربلائية قلّ نظيرها.
* طرقات تعلن الرحيل
قضمت ساعات الانتظار القلب، خيّم الليل، والعيون ترقب الطريق، وسرعان ما طُرق الباب،
وكانت تلك الطرقات تُنبئ بالرحيل.
كان استشهاد "عليّ" مفاجئاً للجميع، وراح أهل بلدته يتناقلون الخبر ليتأكّدوا من
الاسم، فيتيقّنوا من صحّته، ليتجرّعوا حزناً له طعمٌ آخر، حزناً على فراق شابّ كان
يرمي ببصره أقصى السماء، وحزناً على نفوس أهل الدنيا التائهة في أزقّة المظاهر
والادّعاء.
بلى، لقد استشهد ابنُ ذلك البيت مستعيداً ذكريات مَن مضى قبله في طريق المقاومة،
أوَليسوا هم من زفّوا ابنهم "جعفر" عمّ "عليّ" شهيداً أثناء تنفيذه عملية عسكريّة
ضدّ موقع "عليّ الطاهر"، الذي احتلّه الإسرائيليون، وكانوا منه يقصفون البلدة، ما
اضطرّ أهل الحي الشرقيّ للبلدة إلى ترك بيوتهم للخراب والدمار؟
* "استشهد عليّ فداءً لوطنه"
لم تمنع البيئة التي كان يختلف معها "عليّ" من الالتحاق بالمقاومة، والخضوع لدوراتٍ
عسكرية، ولم يغلق أحد الباب في وجهه عندما أراد الالتحاق بالجبهة، ولم يَسأله أحد
عن تفاصيل عمله، باستثناء سؤال واحدٍ كان يتكرّر كلّ مرّة: "متى ستعود؟"، فيذهب
وترافقه الدعوات والصلوات، فقد كان الوعي بأحقيّة هذه المعركة وأهميّة مكانها حاضراً
في نفوسهم. ولهذا، عندما نَعَتْه أمّه قالت: "لقد استشهد عليّ فداءً لوطنه!".
* ابن بيئة متنوّعة اختار الجهاد
من يعرف "عليّ"، يُدرك أنّ أسراره بدأت منذ اللحظات الأولى في حياته، فقد وُلد في
شهر رمضان المبارك في أيّام استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام، فحمل اسمه المبارك.
وهو الابن الثاني في العائلة. تربّى "عليّ" في بيئة متنوّعة الثقافات والانتماءات.
درس في ثانوية إسلاميّة، فأتاحت له التربية الواعية والمثقّفة، أن يكوّن رؤيته
الخاصّة، وأن يُحدّد خياراته.
* ترافقه ابتسامة حياء
منذ صغره، كان يعشق التراب، بحيث كانت جدّته لأمّه، التي تولّت أمر عنايته في صغره،
تصحبه إلى فسحة صغيرة في منطقة الرويس ليلعب بالرفش والمعول، حتّى ينال منه التعب،
فيعود ووجهه ملوّحٌ بحمرة الشمس ووحل اللّعب، ويغفو وابتسامة الفرح تعلو ثغره.
لم تغادر الابتسامة وجه "عليّ" يوماً، وهو الذي سابق أترابه طولاً، وصار كلّ مَن
يلتقيه يسأله التمّهل في طوله وعرض كتفيه، وهو لم يبلغ الخامسة عشرة بعد، فيبتسم
ابتسامته المعهودة الخجلة.
* كافل يتيم
اتّسمت حياة "عليّ" بالجدّيّة والمثابرة، فهو إلى جانب نجاحه في دراسته، التحق
بالعمل باكراً، فعمل هو وأخوه، وبدأ بزرعِ أسس حياته إلى جانب التحاقه بالتعبئة
العامّة للمقاومة، فالاعتمادُ على النفس بَلْوَرَ شخصيّته أكثر، فسبق أترابه بالوعي،
والفكر، وتحديد الخيارات أيضاً، وقد وجد والداه بعد استشهاده أوراقاً خاصّة بتكفّل
يتيم، لم يكن قد أخبر أحداً عنه!
* "جعفر الطيّار" الحسينيّ
"عليّ" الذي استقى اسمه الجهاديّ من اسم عمّه الشهيد، وألحقهُ بكنية "الطيّار"، كان
يريدُ بذلك إيصال رسالة وهي أنّ "جعفر" هو المجاهد في صفوف حزب الله الذي ما تزال
حكايات عمّه، شهيد الوطنيّة، ماثلةً في وجدانه، وأمّا "الطيّارُ"، فهو لعشقٍ أصابه
لجعفر الطيّار، ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وعسى الله أن يحشره معه.
في العاشر من المحرم، شيّعتْ بلدة كفرتبنيت جثمان شهيدها، ووقف أبوه لينعاه بكلماتٍ
قصيرة: "عليّ ليس أوّل شهيدٍ في العائلة.."، هو الشاب العشرينيّ الثاني الذي قدّم
روحه قرباناً للوطن، وهو الحسينيّ الذي استشهد دفاعاً عن السيّدة زينب عليها السلام.