د. حسين صفي الدين
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ﴾(البقرة:
185).
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ
مُّبَارَكَةٍ... فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾(الدخان:
2-3).
﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ
فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾(القدر:
4). الآيات الشريفة تتحدث عن فضل ليلة مباركة سماها القرآن الكريم بليلة القدر، فهي
ليلة عظيمة تقدّر فيها مصائر البشر وهي الليلة التي يُفرق فيها الأمر الحكيم بنزول
الملائكة والروح. وزاد من شرافتها أنها
﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾
وأن اللهَ سبحانه خصّها بسورة من القرآن سمَّاها باسمها وأكسبها القيمة من خلال
الأحداث الخطيرة التي ارتبطت بها والتي بيَّنها القرآن. فأول ما يواجهنا فيها هو
نزول القرآن، نزول الرحمة الإلهية متمثلة بالحبل الممدود بين السماء والأرض لهداية
الإنسان، لكن ماذا يعني نزول هذا الكتاب الإلهي في ليلة واحدة خلافاً لما هو معلوم
من أن القرآن نزل على امتداد 23 عاماً من بعثة الرسالة وحياة الرسول وبمناسبات
مختلفة؟ فالقرآن لم ينزل في وقت واحد وفي مكان واحد، نزل بالتدريج قسم منه في مكة
والآخر في المدينة وفي كليهما بمناسبات متعددة، فما الذي يعنيه إذاً نزول القرآن في
ليلة واحدة؟
نزول القرآن
هنا يُفرِّق المفسِّرون بين الإنزال والتنزيل، ويفرق
الحكماء المتألِّهون بين مقامي الجمع والتفريق. ولتوضيح ذلك نقول إنَّ للقرآن حقيقة
لها مرتبتان:
ـ مقامٌ عليٌّ حكيم
﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ
لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(الزخرف:
4) في كتاب مكنون ومحفوظ، مقام مستور لا يصل إليه أحد من بني البشر إلاَّ
المطهّرون الذين يمسّون حقيقة القرآن دون باقي الناس جميعاً.
ـ ومقام يستطيع أن يصل إليه عامة الناس وهو مقام الإنزال والتنزيل من المقام
المكنون والمستور إلى عالم الدنيا والإنسان وهذا يتحقق بصورتين:
الأولى: هو نزول القرآن بصورة جمعيّة ودفعيّة
على قلب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.
الثاني: تنزيله بصورة تدريجية مفصلة وفي
مناسبات مختلفة وهو المعبَّر عنه بـ "بين الدفتين" والمخاطب فيه عامة الناس وجميعهم
يستطيعون الوصول إليه.
من خلال هذا التفصيل نعرف معنى نزول القرآن في ليلة القدر، إنه النزول الدفعي من أمِّ
الكتاب واللوح المحفوظ إلى عالم الدنيا، وهذا لا يتنافى مع حقيقة أنه نزل بالتدريج،
لذا نلاحظ الآيات التي توصي النبي صلى الله عليه وآله بأن لا يستعجل في قراءته أو
يستبق تلاوته قبل أن يرد إليه.
﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ
أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾(طه:
114).
﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ
بِهِ... فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾(القيامة:
17 و19).
﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ
عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾(الإسراء:
106).
التقدير وتنزّل الملائكة والروح
لكن يبقى السؤال عن سبب تسمية هذه الليلة بليلة القدر. وإذا ما راجعنا الروايات
الصادرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام سنجدها تتحدث عن أن الله سبحانه وتعالى
يُعيّن في هذه الليلة مقادير العالم والإنسان(1)، من دون أن يعني ذلك إجبار الإنسان
وسلب الاختيار عنه في أفعاله بسبب التقدير، إنَّ العلم والتقدير كليهما لا يتنافيان
ومقولة أن الإنسان حرُّ ومختارٌ ومسؤولٌ عن أفعاله.
تنزّل الهداية والمغفرة
ومن الأهمية بمكان ملاحظة التنزّل في الآية، فما الذي يعنيه نزول الملائكة والروح
في هذه الليلة إلى عالم الدنيا؟ هل أن هذا النزول انقطع؟ وإذا كان الجواب نفياً
فعلى من تنزل الملائكة والروح؟ إن صيغة المضارع في "تنزّل" تدل على أن النزول لم
ينقطع عن سماء الدنيا ولم يقتصر على سنة دون أخرى، فهو دائم ومستمر ما دامت السموات
والأرض وما بقي عالم التكليف وبقي دين محمد صلى الله عليه وآله وحلاله وحرامه إلى
يوم القيامة، وبالأخص ما استمرت حاجة الإنسان إلى الهداية والمغفرة الإلهية،
فالملائكة والروح تنزل بكل أمرٍ يرتبط بالإنسان وعالمه وبهدايته، ولا بُدَّ دائماً
وأبداً من وجود إنسان مستعد لتقبل هذا الفيض الإلهي.
علاقة أهل البيت عليهم السلام بسورة القدر
لا بد من وجود إمام حجة لله على خلقه(2)، قرين للقرآن لا يفترقان حتى يردا الحوض
على رسول الله صلى الله عليه وآله، فقد جاء في حديث عمر بن أذينة وغيره عن أبي عبد
الله عليه السلام في كيفية الصلاة قال: إن الله أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وآله
ليلة الإسراء في الركعة الأولى أن اقرأ قل هو الله أحد فإنها نسبتي ونعتي ثم أوحى
إليه في الثانية بعدما قرأ الحمد أن إقرأ إنا أنزلناه في ليلة القدر فإنها نسبتك
ونسبة أهل بيتك إلى يوم القيامة(3). نعم إن هذه الحجة الإلهية المستمرة إلى يوم
القيامة قد تكون إماماً إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله
وبيناته(4)، وهو قرين حبل الله الممدود بين السماء والأرض الذي لم ينقطع بنزول
القرآن الدفعي والتدريجي. فقد جاء في مجمع البيان عن أبي ذر أنه قال: "قلت يا رسول
الله ليلة القدر هي شيء تكون على عهد الأنبياء ينزل فيها، فإذا قُبضوا رُفعت، قال
لا بل هي إلى يوم القيامة"(5). وفي حديث آخر عن داود بن فرقد قال: حدثني يعقوب قال:
سمعت رجلاً يسأل أبا عبد الله عليه السلام عن ليلة القدر. فقال: أخبرني عن ليلة
القدر كانت أو تكون في كل عام؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: "لو رفعت ليلة القدر
لرفع القرآن"(6).
فإذا كانت ليلة القدر لا تنقطع بقبض النبي، بل هي باقية إلى يوم
القيامة، وإذا كان الإمام هو قرين القرآن الذي لا يفترق عنه، وإذا كان النزول لم
ينقطع عن سماء الدنيا ولم يقتصر على سنة دون أخرى، نفهم جيداً أن الأمر الإلهي في
ليلة القدر، لا بد له من متعلق يُعرض عليه أولاً وبهذا نعرف الارتباط القائم بين
ليلة القدر وبين إمام العصر. وهذا البيان يتطابق إلى حد بعيد مع نظرية الشيعة
الإمامية القائلة بوجود الإمام المهدي(7) الثاني عشر من أئمة أهل البيت حياً غائباً
عن أعين الناس حتى يأذن الله سبحانه بخروجه(8). وإذا كان من أفضل أنواع العبادة في
هذه الليلة هو الدعاء وطلب العلم، فإن التدبر فيما سبق يُحفّز المؤمنين على طلب
الرحمة والهداية الإلهية التامة بخروج ولي الله في أرضه الإمام المنتظر عجل الله
فرجه.
(1) قال ابن عباس: سُميت ليلة القدر، لأن الله تعالى يُقدر
فيها ما يكون في تلك السنة من خير ومصيبة ورزق وغير ذلك. تذكرة الفقهاء (ط.ج)،
العلامة الحلي، ج6، ص334.
(2)
﴿يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ
أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾(النحل:
3).
(3) الحدائق الناضرة، المحقق البحراني، ج8، ص179.
(4) نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، دار البلاغة بيروت، ص697.
(5) مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، دار المعرفة، ج10، ص786.
(6) تفسير نور الثقلين، ج5، ص621.
(7) قال الإمام الصادق عليه السلام: نزل القرآن في ليلة القدر إلى البيت المعمور
جملة ثم نزل من البيت المعمور على رسول الله صلى الله عليه وآله في طول عشرين سنة،
ومعنى ليلة القدر أن الله تبارك وتعالى يُقدر فيها الآجال والأرزاق وما يكون في
السنة من موت أو حياة أو جدب أو خصب أو شدة أو رخاء أو شر (تنزل الملائكة) على إمام
الزمان مع روح القدس. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج82، ص52.
* للمراجعة:
1- الشافي في شرح الكافي، ج3، ص210.
2- بحار الأنوار، ج97، ص100.
3- إكمال الدين، ص272 و299.
4- الخصال، ج2، ص480.
5- تفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ج5، ص253.
6- علم الإمام، الشيخ محمد حسين المظفر، ص93.