عندما يحتبس غيث السماء، تحبس الأرض خيراتها، تغور
عطاءاتها في باطنها... تنكمش التربة على ذاتها في محاولة للاحتفاظ ما أمكنها بما
بقي فيها من كنوز، كأنها القرش الأبيض للأسام السوداء... حتى إذا ما طال انتظار
الأرض غيث السماء واستدام احتباس الخير في مدى الفضاء، أخذ عصب الأرض بالارتخاء،
وبان الوهن على هيئتها، وظهر التشقُّق في قشرتها، وبدا التبدٌّد في ترتبها... حتى
لكأنّ حبات ترابها الناعمة ليمكن ذَرُّها في الهواء مع أي حراك لفاعليات العواصف
والرياح... كأن التدابر والتنابذ والتناكر أصبح سمة يصح وصف عناصر الأرض بها...
وكأن التجاور والتساكن والتلاصق أصبح فعل ضرورة من دون اختيار لأفرادها في هذا
التحيُّز، ولا إرادة لها في هذا التشكُّل... حينذاك، تعلن الأرض عجزها عن حماية
كيانها... حفظ عناصرها... عجزها عن المزيد من العطاء لأهلها...
ترفض الأرض إعلان استسلامها ورفع الراية البيضاء ما دامت الصلة قائمة مع
بارئها. بل هو وعي الأرض لقدرها ووجودها، وأنها رشحة عطاء من الجواد الكريم... وعي
الأرض لقدرتها، وأنها مظهر من مظاهر اقتدار القوي القدير... وعيها لانتظامها في
منظومة الوجود ببعده الشهودي المستمد إحكامه ونظامه من لدن الغيب... كل قوة من قوى
الأرض تعي ذلك... كل ذرة من ذراتها، وكل عنصر من عناصرها، وكل فرد من أفراد قواها...
يعي. من أجل كل ذلك، تعلن الأرض أنها لن تستقبل من وظيفتها، بالعطاء وتأمين أسباب
الحياة لأهلها قدر ما يحتاجون وأكثر. وتعلن أيضاً أنها لن تتنازل عن دورها الأشرف
في تمثُّل الإنسان الكامل فيها بالخلافة الإلهية الحقيقية، وتبدّي مظاهر هذه
الخلافة أو بعضها فوق ظهرها. تعلن الأرض أنها تتخلّف عن توفير أيٍّ من الأسباب
المرصودة في ثناياها لمدِّ إنسانها بالحياة، وتؤكد لأهلها أنها حاضرة دوماً لرفدهم
بما يجعل مسيرتهم لا تتوقف في تقدمها عند حدود، ولا تمنع تطورها ورقيها كل العراقيل
والسدود. تعي الأرض كل ذلك، وتعلم بعجزها، تعلن الأرض التحدي العظيم في كل دورة من
دورات الحياة الكاملة... يحتبس غيث السماء. عندها، تستجمع الأرض كل قواها... كل ما
فيها من حياة لتؤكد استمداد وجودها وبقائها وعطائها من واجب الوجود الحي الجواد...
تستنهض الأرض ما بقي فيها، تبدأ عناصرها وطاقاتها حركة التضرّع واهنةً ضعيفةً...
تقوى التقديسات في سياق تصاعدي متمادٍ لا يعرف الكلل ولا يشوب اضطراره الكسل...
تستصرخ الأرض ربها... تستعطيه للخير... تستغيث رفده وبرّه... والأمان. وفي الموازاة،
تعلن الأرض ثورتها على الخنوع والاستكانة، في انتفاضة من العصف لكل قواها وطاقاتها،
لتنفض عنها غبار التعب وركود العوامل وتخفف من كل ضعف ووهن، مُبديةً قدرة مذهلة على
استيلاد الحياة من جديد، وتجرّداً مبرّراً على الواقع الذي لا يرضيها ولا يرضي
وظيفتها ومكانتها... ترسل السماء غيثها، ليداعب ذرات التراب وحبات الرمال، ليغسل
وجه الأرض بكل صعيدها من لوثات الماضي وأكداره... تخرج الأرض جمالها وزينتها وتظهر
بأبهى حلتها... تخرج الأرض خبئها، تعلن التمرّد على كل نقص... تعلن حياة جديدة
لا تعرف الضعف ولا الذل ولا الوهن ولا العجز ولا الانكسار... تلك هي الأرض وذلك هو
عطاؤها... تلك هي أمتنا... وذلك هو فعل الشهيد. ألف تحية للشهيد في يوم الشهيد.