شاهدناه متربّعاً تحت السماء، يجلس على صخرة، أو على ربوة
صغيرة يلفّها العشب الأخضر، ومن حوله الشجر، بوضعيّة الرّاحل المطمئنّ، يكتب: "إلى
أحبّائي الذين رافقوني في هذه الدار، أوصيكم بكلّ خير". يختم بكلمته الأخيرة، يصافح
الرفاق المصوّرين ويبتسم لعدسات الكاميرا الحربيّة، متألّقاً بهامة المقاتلين
الأشدّاء، الذين تبدو على محيّاهم علامات أهل السّماء.. ويعزم راحلاً، باذلاً دمه،
مضحّياً بنفسه. ورأينا أهل بيته، ذُخره الباقي في هذه الدنيا، يعضّون على ألم
الفراق، ويحتسبونه عند الله، صَدَقةً تذود عنهم حتّى قيام الساعة. ينتظرونه
وينتظرهم غداً، وعداً منه إليهم، كما ترك في وصيّته: "ألقاكم يوم الحشر، وأناديكم".
* العهد المنقول
في الوصيّة قوتٌ وزادٌ من الشهداء، يحدّثوننا عمّا تبقّى لهم من عمر سريعٍ في دنيا
فانية. يجتاحك سؤال: ما حال ابن الشهيد وهو يقرأ هذه الوصيّة التي كسرت قلبك وأجرت
دمعك؟
وما حال الأطفال الذين كبروا وشاشات التلفزة تنقل ابتسامة والدهم، ودمعة عينه حين
يذكر اسم أحد أبنائه؟
كعائلة شيخ الشهداء "راغب حرب"، وكعائلة أسد الميادين الأمنيّة الشهيد "فوزي أيّوب"،
أو كألق الحبّ الذي خلّفته ابتسامة شهيد الوعد الصادق "خالد عبد الله"، وعفويّة
الرحيل لدى شهيد الدّفاع عن المقدّسات "مهدي ياغي". رحلة بين البقاع والجنوب، فيها
ألف قصّة وغصّة، ترويها فلذات القلوب المولهة، الّتي تتأوّه ليلاً نهاراً شوقاً إلى
اللقاء الأخير.
* حياته وكلماته: وصيةٌ كبيرة
"حوراء راغب حرب"، ابنة مقاومة المرحلة الأصعب، تحدّثنا عن لوعة طفلة فقدت أباها،
قائلة: "الصدمة تعدّت القرية إلى الجنوب كلّه. شعرتُ أنّني فقدت الأمان والحضن
القويّ". نحن هنا نتحدّث عن قامة كراغب حرب. تضيف الحاجة حوراء: "العزاء كان في
آثاره، فالعائلة تراجع الخطب والمحاضرات التي تركها الوالد، المليئة بالوصايا
والإرشادات والتوجيهات التربويّة والثقافيّة، في حين أنّه لم يُعثر على وصيّة خاصّة
له. مضافاً إلى حكايا الأهل والأقارب عنه وعن مواقفه وكلماته. هذا كلّه شكّل
بالنسبة إلينا وصيةً كبيرةً غنيّةً بالمواعظ العملية"، وهي تتلخّص بعدد من العناوين
أبرزها: الإعراض عن الدنيا؛ انطلاقاً من قوله: "الدنيا تنحني عند أقدام الزاهدين
بها، تتمرّغُ عند أرجُلِهم، يُذلّونها، يستعبدونها، يصنعونها حاضراً ومستقبلاً،
وأمّا اللاهثون خلفها، فإنّها تُرهقهم صعوداً، تُنهكُهم لُهاثاً، ثُمّ ترمي بهم إلى
أسفل سافلين". العنوان الآخر هو الخوف من الله وحده، حيث يقول الشيخ الشهيد:
"نحن لا نخشى نسف البيوت، نحنُ نخشى يوم ينسف الله الجبال نسفاً".
* يُربّينا ولو بعد رحيله
وعن القوّة في اتّخاذ المواقف، تنقل ابنته قوله: "نحنُ لا نريد أنصاف المواقف؛ يعني
لا معنا ولا مع عدونا، هذا لا يُفيدنا، فإمّا أن يكون معنا بالكامل، وإلّا فليذهب
إلى العدوّ بالكامل". وتضيف ابنته: "حين نحتاج إلى الأب الذي يُربّيك لله، نتذكّر
كلماته: (أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، اجعلوا التقوى ميزان أعمالكم وميزان
أحكامكم، تواصَوا بالتقوى، تهادَوا بالتقوى؛ فالتقيّ لا يمكن أن يذلّه أحدٌ، ولا
يمكن أن يستعبده أحد، التقيّ تصل يده حيث تصل يد الله، ويمتدُّ ظلّه حيث يمتد ظلُّ
الله)".
وأمّا في حياته مع العائلة، فقد كان الشّيخ شديد الحرص على أداء التّكاليف الدينيّة،
وعلى رأسها الصلاة في وقتها. مضافاً إلى الكثير من الدروس التربويّة التي راقبوها
في حياته، تنقل حوراء: "الرأفة بمَن حولنا، ولا سيّما باليتيم، التسامح فيما بيننا،
الاحترام الشديد للكبار، بل للجميع، التواضع الشديد، التعامل مع الآخرين بمنتهى
الأدب واللياقة".
* لا تغيب بسمته ولا غصّته
من منّا لا يعرف دموع شهيد الوعد الصادق "خالد عبد الله" عندما فرّ منه جأشه عند
ذكر السّيدة الزهراء عليها السلام؟
لا تغيب الوصيّة المشهورة عن "زهراء عبد الله" ابنة تمّوز والـ22 عاماً، بسمة أبيها،
وغصّته؛ فيحضر في بالها المقطع الذي يتكلّم فيه عنها، ليضعها أمام "مسؤوليّة كبرى"
على حدّ قولها، دينيّاً بالتحديد، وتضيف: إنّ ما تحدّث به الوالد في الوصيّة، يلخّص
طبيعته الحنون والطيّبة والخالصة لأهل البيت عليهم السلام. وكيف أنّ نهج "المقاومة"
هو استمرار لهذا الفكر، الذي أورثهم إيّاه وحرص على ثباتهم عليه.
تشير "زهراء" إلى أنّ همّ الشّهيد كان رضى الله عزّ وجلّ، ولا شيء دونه: "فكان يطلب
من الله أن يقتصّ من عمره، في حال تزعزع دين أحدنا"، وتضيف: "إنّ وصيّة والدي
وضعتني أمام مسؤوليّة، فكلّما تضعف إرادتي في موضوع ما، كلماته تعيدني إلى توازني،
وقد دفعتني اليوم إلى الالتزام بالعباءة الزينبيّة".
لتختم كلامها بالقول: إنّ أباها لم يذهب عبثاً، وإنّ استشهاده كان لشدّة تعلّقه بنا،
وطموحه بأن نعيش حياة عزيزة كريمة دون ذلّ العدوّ، واليوم بعد مرور حوالي 12 عاماً
على استشهاده، يُكمل إخوتها المسير في خطّ المقاومة ونهج أهل البيت عليهم السلام.
* أحبّ عفويّة أبي
عائلة الشهيد "مهدي ياغي" تشبهه، بالحبّ الّذي ألقاه على جميع من سمعوه، هم يملكون
الألق البقاعيّ نفسه.
"آدم" وعمره 5 سنوات، يتحدّث بعفويّة والده، عن أكثر المقاطع التي يحبّها في وصيّة
والده المصوّرة: "كان يحبّ تقبيل جدّتي، حنون". ويضيف ببراءة أنّه لم يعرفه كثيراً،
لكنّه يشعر بوجوده أينما حلّ، وخصوصاً بعد مشاهدة الوصيّة.
في حين أنّ "كرّار" البالغ من العمر 7 سنوات، يضحك ويفرح "لهضامة" أبيه كلّما شاهد
الوصيّة، ويقول إنّ هناك مقطعاً في الوصيّة يدغدغ ذكرياته مع والده، عندما يدعو
أصدقاءه ويقول لهم: "روحوا عند أبو ياغي"، وقال أيضاً: "تعو لعندي، وتسلّوا ولعبوا
أونو"، فهو يذكر من رحلته الصغيرة معه أنّه كان رفيق دربه في زيارة الأصدقاء.
أمّا عند "زهراء حبيب"، زوجة الشهيد، فللوصيّة مكانة خاصّة، فهي تضع القسم الخاص
بها في حجرتها إلى جانب صورته، أمام مرأى عينَيها، ويتردّد إلى سمعها صوته، وهو
يقول: "أريدكِ أن تفرحي لفرحي، وتحزني لحزني"، وتضيف أنّ هذه الكلمات تمدّها بالصبر
دائماً.
* مشاهدتهما الوصيّة أفضل من تلقيني إيّاهما
شدّد الشهيد "مهدي" خلال حياته و"زهراء" على التّربية الصّالحة لولديهما، "كان هذا
همّه الأكبر" بحسب ما تقول "زهراء". وعلى الرّغم من حداثة سنّ الطفلين، تحرص "زهراء"
على أن يشاهدا وصيّة والدهما من حين لآخر؛ كي يتلقّفا بعضاً ممّا أوصى به في صنع
شخصيّة الرّجال، عندما يقول: "نحنا ما منحكي بنات عالطرقات"، مضافاً إلى حرصه على
تربية الودّ مع الأقارب والجيران والنّاس من حولهم؛ "حيث إنّ سماعهما هذه المفاهيم
منه، يختلف عن تلقيني إيّاهما بشكل متكرّر".
* وصيّته على هاتفي
بعيداً عن الجنوب، وعند التوجه إلى عائلة الشهيد الأمنيّ فوزي أيوب أو "الإرهابيّ
المخضرم" بحسب صحيفة "ناشيونال بوست"، نشهد أطفالاً في عمر البراعم يضجّون بالحياة،
أحمد 13 عاماً، عمران 11 عاماً، ومريم أصغرهم 7 أعوام. تتفاوت ذكرياتهم مع الوالد
بسبب حداثة سنّهم حين شهادته، على خلاف الإخوة الكبار عبّاس ومحمّد وعليّ، إلّا
أنّهم يردّدون عبارة يقولها الشهيد في وصيّته، وهي: "يا أولادي في طريق الجهاد، لا
زلت أدعو الله لهدايتكم".
كان أحمد يبلغ، عند استشهاد والده، 9 سنوات. شاهد الوصيّة المصوّرة للمرّة الأولى
في أربعين والده، وقام بتسجيلها على الهاتف، وإلى الآن يشاهدها بين الحين والآخر،
ويتأمّل صورة أبيه وبدلته وطريقة حمله للسلاح. يقول أحمد: "يكاد لا يغيب عن عيني
مشهده وهو يصلّي، وصوته العذب أثناء تلاوة القرآن،
اعتدت أن أسمعه في المنزل باستمرار، الأمر الذي دفعني إلى التسجيل في الالتحاق
بجمعيّة القرآن الكريم وحفظ القرآن".
وعن الوصايا العمليّة، يشير أحمد إلى حرص العائلة على صلة الأرحام؛ إذ إنّ أباه
شدّد على أهميّتها، إلى جانب الاهتمام بالواجبات الدينيّة، وتأتي على رأسها الصلاة،
فيقول: "كان يواظب على الصّلاة في المسجد كلّما سنحت له الفرصة، وعلى الرغم من أنّي
كنت صغيراً، إلّا أنّ حرصه الدائم هذا كان يلفتني. اليوم أحرص على تطبيق ما كان
يفعله، فقد بنى بيني وبين المسجد علاقة خاصّة دون أن أشعر. حين أعيد سماع مقاطع
الوصيّة، أشعر به يقول لي كلّ مرّة: تذكّر ما كنت أفعل، هذه أمانتي لك".
* لنُحقّق وصاياهم
مضافاً إلى التربية الدينيّة، حرص الشّهيد خلال حياته وفي وصاياه على أهميّة تقوية
البنية الجسديّة عبر التدريبات، وهو ما دفع معظم الأولاد إلى التوجه نحو نوادي
الفنون القتاليّة.
حين نتحدّث مع أحمد يظهر أنّه متفوّق دراسيّاً كما بقيّة إخوته، والسبب كما يقول: "يجب
أن يكون مرورنا مُدوياً على مقاعد الدراسة، دعوا الناس تضرب المثل بأبناء الشهداء".
ويضيف: "انطلاقاً من كوننا أبناء شهداء، نسعى بكلّ ما نملك إلى أن نقدّم نموذجاً
قيّماً في الميادين كافّة، علميّاً واجتماعيّاً ودينيّاً؛ لنكون بهذا قد حقّقنا
الوصيّة التي تركها آباؤنا لنا".
بصبر واحتساب يتحدّثون، تفرّ منهم دمعة بين بسمة وأخرى. ما نشاهده أو نسمعه عنهم
يبقى سطحيّاً، لا أحد يعلم بما مرّوا به حتّى اليوم، إلّا أنّه بعون الله وتسديده
وببركة الدّماء التي ارتفعت لله، يستمرّون، ويؤكّدون أنّ الرسالة لم تنتهِ، طالما
أنّ الجبال يحرسها الشهداء، وطالما هم عند الله أحياء، أبناؤهم سيحرسون الأرض.. لأنّ
الوصيّة لا تنتهي.