نهى عبد الله
كانوا يحثّون السير شوقاً، ليس بين النجف وكربلاء، بل بين كربلاء وكلّ الاتّجاهات.
هذا العام مختلف عن القرون الماضية، ثمّة وعدٌ تحقق، والمقصد في كربلاء لم يكن
الحسين عليه السلام وحده... في كربلاء ستقرّ العيون بلقياه وتطمئن القلوب، ووعد ٌبكمال
العقول أيضاً. أخذوا ينهبون الطريق سرعةً، والساعة في النهار تركل الأخرى، تتداعى
الدقائق للقائه، شوقٌ عتيق يحملونه من صدور الأجداد إليه.
بانت اللّوحة الخضراء الكبيرة على جانب الطريق، كأنّما نبت لها ذراعان تهلّل بهما
للجُموع: "كربلاء ترحب بإمامها". فاض الشوق بشيخ كبير، اتكأ إلى جانب حائط، ومرّر
يديه على ركبتيه، لينتزع منهما وعداً بعدم خذلانه، فالحبيب بات قريباً ينتظرنا عند
جدّه. اقترب منه شابٌّ وقدّم له قارورة ماء محاطة بشريط، مكتوب عليه: "أربعون يوماً
على الظهور المبارك". ارتفعت يده إلى رأسه بعفوية، وأكمل السير.
اجتمعت حشود أهل العالم أمام مشهد الحسين عليه السلام. لم تكن المواكب مصنفة
بالأعراق والبلدان، بل موكبٌ لـ "أنصاره"، وآخرُ لـ "أعوانه"، "الذابّين عنه"، "المُسارعين
لقضاء حوائجه"، "المُمتثلين لأوامره"، "المُحامين عنه"، "السابقين لإرادته"،
تقدّمهم موكب "المستشهدين بين يديه" لتدخل النعوش، مزهوّةً برايته، على الأكتاف،
يقودها هو بعمّته الخضراء إلى حرم الحسين عليه السلام؛ ليتشرفوا بصلاته.
يهمس طفلٌ لأبيه: "أبي لمَ يُستشهدون الآن وقد ظهر المولى؟ يبتسم والده دون أن يخفي
دموع الشوق والبهجة تتدحرج على وجهه: "يا عزيز والدك، هو الوعد بتطهير الأرض، يوم
أعلنه بندائه في العاشر من محرم الماضي: (ألا يا أهل العالم، إن جدّي الحسين عليه
السلام قتلوه عطشانَ). ها قد استدعى حرقة السنين في قلوب المؤمنين ليومٍ عظيمٍ".
"اللهّم اجعلنا من أنصاره".