مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قصة العدد: حـبــرٌ لظمأ التراب


ولاء إبراهيم حمود


إليك أسعد، وقد وضعتنا إرادة الله أخوين أمام لحظةٍ واحدة، وإلى حوراء التي لولاها، لما صارت قصَّةٌ ولا كُتِبَت، إلى فاطمة وأمِّها وأخيها مصطفى مع العرفان. سألتني ابنتي في ليلٍ شباطيٍّ عاصفٍ: "ماما؟ قولِكْ المجاهدين، شو بكونوا عم يعملوا بهيك طقس؟" فأجبتها: "الله يعينهن، والله ما بعرف، ما كنت معهن، لا بالليل ولا...!"

وتذكَّرتُكَ أنت، بملامحك الجادة، التي ما نسيتها أبداً، وهتفت بها: "بعرف شو عملوا بالنهار وبهيك طقس". ورويت، وأنا أعنيك، فأنت حيٌّ تُضيءُ وجداني، متحدِّياً نافذتي الموصدة، في وجه الريح والظُّلمة والمطر. لقد خدعني نهار الرابع من آذار 1989 بشمسه الدافئة، ريح مفاجئة عاتية، عاكستني في اتِّجاهي إلى طريق المطار، مفرق مدرسة القتال؛ أمطارٌ غزيرةٌ جعلت طفلتي بين ذراعيّ، ريشة خارجة لتوِّها من دواة. خبَّأتها عبثاً بفضلة حجابي الغارق بماء السماء. لمحتك وأنا أستعيد حقيبتي، التي قذفتها نحوك، سيول المنحدر، لوَّحت لي من زجاج سيارتك، فخفت الوقوع بحوراء، في تلك الأوحال المتدفِّقة، اختفيت فجأة، ووقفت بها تحت سقف مبنىً متهدمٍ، سنونوةً صغيرةً، غدرها ربيعها الأول، وســــــعـــفـــــة يابسة نسيت موعد هبوب الرياح. وابتهلت إلى الله أطلب لأجلها مُنقِذاً. فجأةً توقفت قربي وباتجاهي نفسه، بثوانٍ تناولتها من يدي وأشرت إلى الباب الآخر. كانت الصغيرة متجمِّدة، ولُمْتَني: "في أم بتضهر ببنتا بهيك طقس"؟" سكتُّ محرجةً. ركنت السيارة جانباً، أدرتَ جهاز التدفئة. وحده مع صوت المحرك كسرا بيننا هيبة الصَّمت. جففت رأس طفلتي بمنشقة أعطيتنيها، مع لهجة خفَّت حدّتها: "معك غير ثياب إلها؟" "إيه" بالكاد لفظتها، ساعدتني بتغيير ثيابها وبتجفيف ثوبها المبلَّل ومازحتني "صحيح هوي حلو ولونو أصفر، بس هلَّق بتمرض بهيك طقس". وضحكنا معاً لدلالة اللون المقاوم. ولمَّا استعادت لونها وتدفَّأت، أخذتها إليك تلاعبها بحنو والدٍ، فسألتك: "عندك ولاد بعمرا؟". فأجبتني مبتسماً لطفلتك في بالك: "إيه، عندي فاطمة أكبر شوي وعم نفكِّر بغيرا، إن شاء الله مصطفى(1)".

 وشاركتك التَّمني، حدَّثتني عن شغفك بفاطم(2) وسألتني بجدِّية: "لو بيها شافا بهالحالة، شو كان عمل فيكي؟ أنا لو مطرحو...؟" قاطعتك: "كان سمعلي وعذرني ووصّلني مطرح ما بدي." فأقسمت: "والله كرمال حوراء، رح وصلك محل ما بدك". فأكدت بدوري: "وأنا لولاها ما طلعت، بعدني جايبتا من عند حكيمتا، كان الطقس حلو ورايحين عند بيا!". وبرَّرتُ لك رغبتي في أن تمضي حوراء عيد ميلادها الأوَّل مع أبيها الغائب منذ يومين في عمله في المبرَّة. وسألتك، "بعيدة شوي مش هيك؟" فطمأنتني: "مش مشكلة، خيِّ بيشتغل هونيك واسمو علي برو". وأخبرتك أنني أعرفه، وأنني تلقيت دراستي في الثانوية الأهلية لآل برو فسألتني باهتمامٍ: "أنت مش من بيت إبراهيم؟" فأجبتك مرتاحةً: "إيه صحيح، كيف عرفت؟" وتابعت: "بتشبهوا رفقاتي ساكنين بالليلكي، زهير وأحمد إبراهيم، بتعرفيهن؟" واكتأبت: "إيه، هني إخوتي". وسُرِرتَ: "عم قول... يا سبحان الله كيفن وشو أخبارن؟". لم ينقصني سوى فتح هذا الجرح، كي أفكَّ قيدَ مشاعري، ولاحظتَ: "خير، بهن شي؟ ليه عم تبكي؟". وأخبرتُك متألمةً: "بعد جمعتين من الاجتياح، ومن بعد ما سهروا بخلدة مع الشباب ثلاث أيام بدون نوم، سهروا بكلية العلوم يومين وقبل ما تسقط بـ16 حزيران الصبح، تصاوبوا بقذيفة هني وراجعين عالبيت، أحمد استشهد وزهير توفّي بعد عذاب أربع سنين من إصابتو".

وغزا الحزنُ عينيك، وتضاعف ألمي عندما رأيتك تمسح بيدك دمعةً، وبالأخرى تسند رأسك فوق المقود. والله لو اجتمعت حينها كلُّ دموع العمر، لما عادلت عندي تلك الدمعة، لقد عرفت أمامها عظمة دموع الرجال يا أسعد، ووصلتني صادقة، مؤثرة، كلمتك المقاومة: "الله يرحمن، هنيئاً إلهن، سبقوني". أدركت حينها ما لم تقله لي، أيقنت أنك مقاوم تصعب رؤيته ثانيةً. وتدفَّق المطر خارجاً والكلام بيننا، واستأنفتَ المسير. وقبل وصولنا المنعطف المرتفع، قبالة البحر، خلعت سترتك الصوفية السوداء، ولففت بها حوراء قائلاً: "هلَّق بيسفقها الهوا، خلِّيها عليها". وأمام البوابة الكبيرة، دعوتك للتعرّف إلى أبي حوراء وللسلام على أخيك، فاعتذرتَ لأنَّك تأخَّرت كثيراً عن موعدٍ هام. ورفضت استعادة سترتك: "أعطيها لعلي، بعدين باخدا منو". فسألتك شاكراً لك: "مين بقللو". "قوليلو خيَّك أسعد". وقبل أن تمضي ملوِّحاً لحوراء، اقتربتُ بها منك وتركتُها تشكرك على طريقتها، وعندما قبَّلت جبينها بمحبتك لفاطمة، توجهت إلي، بعاطفة أخٍ حقيقي: "كل عام وأنتو بخير، الله يخليلكن ياها، يللا، انتبهيلا منيح، السلام عليكم". وقبل أن أجيبك مقاومةً غصَّتي التي اختنقت بها آخر كلماتي إليك؛ سلامي لفاطمة وأمِّها، لاحظت أن قميصك ذو مربعاتٍ ملونةٍ خاليةٍ من الأصفر الذي أحببناه جميعاً، ولم أُعلِّق، كي لا أؤخرك بعد. ناولتني حوراء رغماً عنها وربما عنك، لوحت لك بيدها الصغيرة، ورافقك دعائي طويلاً، حتى غيَّبك المنعطف.

وتوقفت الأيام بي، ذات ظهيرةٍ عاشورائيةٍ من آب اللهاب، من العام نفسه 1989، على درج الحسينية، وإلى نهايته شدَّني احتشادُ جمع بشري أمام تلفاز في المحلِّ المقابل، تسمّرت مكاني، والتصقت -عندبعد-بالشاشة عيناي. كنت أنت، تملأ الكون نوراً. تسارعت ضربات قلبي، فبكى ثالثةً أخاه، بكيتك بحرقةٍ يا أسعد، على كتف امرأة أسندتني على غير معرفة، أمام الجمع الواقف مثلي، إجلالاً لوصيتك الاستشهادية، تتلوها علينا مرتدياً قميصك ذا المربعات الملوّنة. أخَّرتك كثيراً يومها؟ وستغفرها لي حتماً، أليس كذلك؟ والآن، يا شيخ الواصلين إلى الحسين عليه السلام هلا غفرت لي تأخيري قصتك عشرين عاماً فقط؟ فأنا لم أملك يوماً حبرك القاني كي أحسن كتابة ما يليق بعظيم مثلك، فسؤال حوراء المتعاطف مع المجاهدين بعدك، في ليلة عاصفة من شهرمولدك (3)، يؤكد، أن ما كتبته بأشلائك وحبرك نجيع يروي ظمأ التراب سيحفظه أبناؤنا بعدنا، عزةً وانتصاراً وحياة وهو أعظم ومما كتبته –حبراً على ورق– طيلة عشرين عاماً. لا أُلامُ بهذه يا مولاي! أليس كذلك.


(1) ولد مصطفى بعد استشهاد أبيه، بأربعة أشهر تقريباً.
(2) فاطمة ابنته، هي الآن شابةٌ متزوجة وأمٌّ لطفلين.
(3) ولد شيخ الاستشهاديين أسعد محمد حسين برو في شهر شباط 1965 واستشهد في 10/آب/1989الموافق للثامن من محرم الحرام عام 1412هـ.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع