إنّها بشارة كبرى أن تكون الحوزة العلميّة قد تعرّضت لبحث مسألة الفنّ من منظار
المعرفة الفقهيّة. من الواضح أنّه لا يُتوَقَّع من الحوزة العلميّة أنْ تُعدَّ
سينمائيّاً أو شاعراً أو رسّاماً أو نحّاتاً أو معماريّاً، ولكن المتوَقَّع منها
أنْ تتصدّى لبيان المباني الإسلاميّة في موضوع الفنّ -وسوف نتعرّض إلى مدى أهميّة
ذلك-، وأن تُكتشف هذه المباني ويتمّ البحث والتحقيق والتعمُّق فيها، ومن ثمّ بيانها
للناس وللمجتمع. هذا عملٌ مبارك جدّاً.
* مقولة الفنّ في الفقه
لا تتركوا هذا العمل، استمرّوا به ولا تعطّلوه. وكما كنّا نعملُ في فقه المعاملات
أو فقه العبادات أو في الآونة الأخيرة في "فقه التواصل والاتصالات" أو "فقه
الاقتصاد" أو "فقه المسائل الاجتماعيّة المختلفة" مثلاً، فلنعمل في "فقه الفنّ"
أيضاً؛ أي أن يتمكّن عالم الدين من أن يعطي رأياً صريحاً واضحاً في مجال الفنّ،
سواء في أصل موضوع الفنّ (بالمعنى الكلّيّ للقضية)، أو في فروعه المتنوّعة
والمتعدّدة. وليس هناك أيّ مانع في اختلاف الآراء بشأن هذا الموضوع، مثلما أنّ هناك
اختلافاً في الآراء بين الفقهاء في جميع الأبواب الفقهيّة؛ لأنّ حاصل كلّ هذه
الاختلافات هو التقدّم.
الفقه اليوم، قد تقدّم إلى الأمام، وبات يخوض المسائل بقدر أكبر من المهارة والعمق
والدقّة والنظرة التفصيليّة؛ وسوف ينحو هذا المنحى في هذا المجال أيضاً.
* الفن شأن إنسانيّ
الفنّ أمر إنسانيّ، وله مظاهره وتجلّياته، كما هو شأن سائر الأمور والأعمال التي
يمارسها البشر. فلا بدّ من تحرّي تلك المظاهر المختلفة، والبحث عن الأحكام
الخمسة(1) في شأنها، وإلّا فإنّ أساس الفنّ أنّه ظاهرة إنسانيّة، أمرٌ مبارك، وهو
أمر ضروريّ وحقيقيّ.
إنّ الفقه يتولّى كلّ شؤون حياة البشر، وهو كفيل ببيان كلّ الأمور التي هي موطن
ابتلاء الإنسان في حياته الفرديّة والاجتماعيّة من الناحية الشرعيّة. حسناً، إنّ
الفنّ هو أحد هذه الشؤون. وهذا ما يستدعي أن يتناوله الفقه ويتعرّض إليه.
* على الفقيه أن يكون عارفاً بالفنّ!
نعم، إذا ما أراد فقيه كبير أنْ يدلي برأيه في المسائل الفنيّة، فعليه أن يكون
عارفاً بمسائل الفنّ؛ ذلك أنّ معرفة الموضوع هي من شروط الاستنباط الصحيح للحكم.
وهناك باعتقادي أعمال كثيرة يمكن إنجازها في هذا المجال، في مجال أصل الفنّ وفلسفة
فقه الفنّ أو في مجال التفقّه في الفنّ عبر الدخول في المسائل الفنيّة من الناحية
الفقهيّة، وتعيين حدودها وقيودها، وبيان رأي الإسلام فيها.
* فقه الفنّ حاجة عصريّة
لقد امتزجت المجتمعات البشريّة اليوم بالفنّ بحيث دخل الفنّ في صميم حياتها، ولا
يُعتبر الفنّ أمراً شكليّاً، فالعمارة على سبيل المثال من أنواع الفنّ، وقد امتزجت
بحياة الإنسان؛ لذلك يترك النمط المعماريّ أثره على روح الإنسان وفكره وسيرته ونمط
حياته. وهذا من الأمور الواضحة البيّنة. نعم، يجب تعيين الحدود والقيود تجاه الفروع
الفنيّة المختلفة، كالغناء ونحت التماثيل، فإنّ أهمّ الروايات [المنقولة في هذا
المضمار] قد وردت في تفسير ذيل هذه الآية الشريفة:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَري لَهْوَ الْحَديثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (لقمان: 6)، إذ لم يقتصر تعالى على الـ﴿لَهْوَ﴾،
بل أردفها بقوله: ﴿لِيُضِلَّ﴾. والرواية
تحدّثنا في إطار هذه الآية المتقدّمة. إذاً، هذه هي شروط الحرمة، والرواية
التفسيريّة تفسّر وتبيّن هذه الآية، ولا تفسّر شيئاً آخر.
ومن هذا المنطلق، هناك الكثير من الكلام والأفكار الحديثة والجديدة التي يمكن
بيانها في شتّى الفروع الفنيّة وأنواعها. وعلى سبيل المثال قضيّة التمثيل. فهناك
شبهة تُراود الأذهان، وهي تلبّس الرجل بلباس المرأة، وتلبّس المرأة بلباس الرجل،
ولكن إذا ما خاض المرء في البحث الفقهيّ وتعمّق فيه، يجد أن المعنى الموجود يختلف
مبدئيّاً عمّا يُتداول تفسيره، وأنّ فيه إشكالاً. ولذا، باعتقادي يمكن إنجاز الكثير
من الأعمال في هذا المجال، والمهمّة هذه تقع على عاتق الفضلاء من علماء وطلاب
الحوزة العلميّة.
* المعيار: الانضباط الفقهيّ
إنّ النقطة الهامّة والأساسية هي الانضباط الفقهيّ؛ أي ألّا تترك الأجواء أثرها
علينا. فلو تصاعدت موجة في جزء من أجزاء المجتمع، وبدأت تفرض الضغوط علينا قائلة:
لِـمَ تحرّمون الشيء الفلانيّ، وتمنعون الشيء الفلانيّ، وانطلقنا نتدارس هذه القضية
متأثّرين بهذه الأجواء، فهذا خطأ... يجب مراعاة الانضباط الفقهيّ بالكامل، ومراجعة
الكتاب والسنّة، والعمل على غرار ما كنّا نعمله في استنباط سائر الأحكام الفقهية من
الرجوع إلى الكتاب والسنّة؛ لنصل في مجال الفنّ إلى النتائج المطلوبة إن شاء الله.
(*) كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقائه مع أعضاء اللجنة العلميّة للمؤتمر
الوطني "فقه الفنّ" والقائمين عليه بتاريخ 11/01/2016.
1- الواجب والمستحب والمباح والمكروه والحرام.