الشيخ محمد زراقط(*)
ظهر الإسلام في بيئة يمارس فيها الإنسان كثيراً من المظاهر الثقافيّة
والاجتماعيّة والفرديّة وكان له من كلّ واحدة من هذه المظاهر موقفٌ مؤيّدٌ أو معارضٌ
أو سكوت وإقرار على الأقلّ.
الموسيقى أحد هذه المظاهر والممارسات التي من الطبيعيّ أن نسأل عن موقف الإسلام
منها، بالنظر إلى تجذّرها في الحياة الإنسانيّة وكونها من أبرز التعبيرات الثقافيّة
التي يمارسها الناس.
ويمكن اكتشاف موقف الإسلام من الموسيقى من خلال تمهيد مقدّمات، ومن ثمّ الإجابة عن
عددٍ من الأسئلة نوردها في ما يأتي:
* التعريف وتحديد محلّ البحث
يبدو أنّ كلمة موسيقى ليست من أصل عربيٍّ. وثمّة ما يشبه الاتّفاق على أنّ هذه
الكلمة تعود إلى الكلمة اليونانيّة (موزيك=mousike).
والصلة بين المفردة العربيّة والأصل اليونانيّ المدّعى واضحةٌ إلى درجة كبيرةٍ.
ورواج هذه الكلمة وكثرة استعمالها ربّما يغنيان عن تعريفها، ولكنّ الضرورات
المعرفيّة تستدعي تعريفها. فقد قيل في تعريفها: إنّها فنٌّ صوتيٌّ تتوفّر فيه
مجموعة من الخصائص، هي: طبقة الصوت وما فيه من لحن وتجانس، والإيقاع، والجرس أو
الجودة الصوتيّة، والزخرفة أو التنوّع في الأصوات، والحيويّة أو الحراك والتتابع
بين الأصوات، والعذوبة(1).
والموسيقى بهذا المعنى لا تخلو منها زاوية من زوايا الحياة الطبيعيّة. فصوت الإنسان
عندما يردّد بعض الكلمات بطريقة معيّنة موسيقى، والقرآن له موسيقى خاصّة وإيقاع
محدَّد لآياته، والأصوات التي تصدر عن الطبيعة لها موسيقى خاصّة تترك وقعها على
الإنسان كصوت الرعد، وصوت العصافير، وحفيف الأشجار، وخرير الماء.
والحديث عن موقف الإسلام من الموسيقى لا يشمل هذه المظاهر الموسيقيّة كلّها، فلا
يُتوقّع من الإسلام أن يحرّم صوت العصافير؛ حيث إنّها من هذه الزاوية ليست موضوعاً
لحكم شرعيٍّ، وإنّما تتحوّل هذه الأمور إلى موضوع لحكم شرعيٍّ عندما يتعلّق بها
السلوك الإنسانيّ. وبعبارة أخرى: يتحوّل السؤال إلى سؤال منطقيٍّ ومبرّر عندما يطرح
بالصيغة الآتية: هل يجوز للإنسان أن يستمع إلى الموسيقى بهذا المعنى الواسع المذكور
آنفاً؟ وهل يجوز له إعادة إنتاج تلك الأصوات؟ وهل يجوز له محاكاتها بإنتاج أصواتٍ
قريبةٍ منها أو تشبهها في بعض الخصائص وتختلف عنها في خصائص أخرى؟
* الاستماع إلى أصوات الطبيعة
يبدو من النظر في النصوص الدينيّة وفتاوى الفقهاء أنّ الاستماع إلى أصوات الطبيعة
ليس أمراً محرّماً، بل قد ينطبق عليه أنّه شكلٌ من أشكال السير في الأرض والنظر في
آيات الله تعالى في الآفاق(2). والأمر نفسه يُقال في ما يرتبط بإعادة إنتاج الأصوات
الموجودة في الطبيعة؛ حيث إنّ محاكاة ما خلقه الله ليس محرّماً إلّا في حالات خاصّة
لا يبدو أنّ ما نحن فيه منها. وبالتالي ينحصر التساؤل والبحث في إنتاج الموسيقى
المختلفة عن أصوات الطبيعة وإن اشتركت معها في بعض الخصائص.
* الإسلام والفنون الصوتيّة
قبل البدء بالحديث عن موقف الإسلام من الفنون الصوتيّة، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ
الأفكار المطروحة في هذه المقالة هي أفكار مبدئيّة عامّة، والموقف النهائي فيها
متروكٌ لاجتهاد المجتهدين وفتاواهم وفق آليّات الاستنباط المعتمدة لديهم.
1- النظرة الإيجابيّة للفنون
وعلى ضوء هذه الملاحظة الأساسيّة، نشير إلى أنّ الإسلام لم يأخذ موقفاً سلبيّاً من
الفنون الصوتيّة في كثير من المجالات. فقد أشار القرآن الكريم بإيجابيّة إلى عدد من
الموارد من هذه الفنون، وحثّ على تحسين الصوت، وأثنى على حسن الأداء في عدد من
الحالات، نعرضها في ما يأتي:
أ- تحسين الصوت في قراءة القرآن: ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسوق..."(3).
وهذه الرواية تشير إلى أنّ تحسين الصوت بقراءة القرآن ليس مطلقاً، بل هو مقيّدٌ
بشرط عدم وصوله إلى حدّ التغنّي به على طريقة أهل الباطل. والموضوع محلّ بحثٍ بين
الفقهاء.
وعن الإمام الرضا عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حسّنوا
القرآن بأصواتكم، فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً"(4).
وورد عن النوفلي عن أبي الحسن عليه السلام قال: ذكرت الصوت عنده فقال: "إنّ عليّ بن
الحسين L كان يقرأ القرآن فربّما مرّ المارّ فصعق من حُسن صوته..."(5). وعن الإمام
الصادق عليه السلام قال: "قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: لكلّ شيء حلية
وحلية القرآن الصوت الحسن"(6).
ب- ترتيل الأذان: وقد ورد في الأذان كيفية خاصّة، وهي تلاوته بطريقة محدّدة لها
موسيقى خاصّة. وقد عُبِّر عن هذه الكيفية في الروايات بـ"الترتيل"، كما في الخبر عن
أبي عبد الله عليه السلام: "الأذان ترتيل، والإقامة حدرٌ"(7). والحدر هو الترتيل
السريع.
ج- الثناء على الصوت الحسن: ورد في الرواية عن النبيّ صلى الله عليه وآله
وسلم: "إنّ من أجمل الجمال الشعر الحسن أو نغمة الصوت الحسن"(8).
وفي ختام هذه الإشارات ثمّة أمور مشهورة في هذا المجال، منها إنشاد أهل المدينة في
استقبال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندما هاجر إليها، وقضيّة غناء النساء في
الأعراس.
2- آلات موسيقيّة منهيّ عنها
وإلى جانب هذا الموقف الإيجابيّ، نجد أنّ الإسلام أخذ موقفاً سلبيّاً من استعمال
بعض الآلات الموسيقيّة التي كانت متداولة في عصر التشريع. ومن هنا، وردت أخبار تنهى
عن العزف ببعض الآلات، وخاصّة بالنظر إلى الكيفيّة والأجواء التي كانت ترافق العزف
في ذلك العصر. ونكتفي بالإشارة إلى نموذجَين كاشفين، ثمّ ننتقل منهما إلى محاولة
اكتشاف موقف بالتحليل والجمع. فقد ورد في رواية مشهورة يحدّد فيها الإمام عليه
السلام ما يجوز وما لا يجوز من الأعمال والحِرَف وأشكال التكسّب، وهي الرواية
المشهورة باسم رواية "تحف العقول".
عن الإمام عليه السلام: "وذلك إنّما حرّم الله الصناعة التي هي حرامٌ كلّها التي
يجيء منها الفساد محضاً، نظير: البرابط والمزامير"(9). وكلمة مزامير واضحة
المعنى، أمّا البربط فهو العود من الآلات الموسيقية المعروفة. وربّما يستفاد من هذه
الرواية أنّ التحريم خاصٌّ بما كان ممّا يأتي منه الفساد محضاً، كما تقيّد الرواية.
ومن هنا، نجد عدداً من الفقهاء قصر التحريم في الغناء، وهو شكلٌ من أشكال الموسيقى،
على ما كان بكيفيّة خاصّة تتناسب مع اللّهو ومجالس أهل الفسق(10). وبالتالي، فإنّ
الآلات المشتركة التي يمكن تأدية الألحان بها بأكثر من كيفية وأكثر من طريقة لا
يحرم استعمالها، ولا يمنع الشرع من استخدامها في إنتاج الألحان المشتركة التي لا
تكون خاصّة بمجالس الفسق.
* بعض التحفّظات
على الرغم من المواقف المذكورة المشار إليها أعلاه، والتي لا يتحفّظ فيها الفقهاء
على جميع أشكال الموسيقى، غير أنّ ثمّة تحفّظات على إدخال الموسيقى إلى المسجد
وجعلها جزءاً مرافقاً لبعض الشعائر الدينيّة.
ومن أهمّ أسباب التحفّظ على بعض أنواع الموسيقى أنّ الموسيقى ليست أمراً محايداً
خالياً من المضمون، بل هي وسيلة من وسائل التعبير يمكن تفسيرها وإيصال الرسائل من
خلالها. وقد دلّت على ذلك الدراسات الكثيرة التي أجريت على الموسيقى وتأثيرها على
جسم الإنسان وعقله. ومن هنا، نجد عدداً كبيراً من الدراسات يقرّ استخدام الموسيقى
في العلاج من بعض الأمراض، وأنّ أنواعاً من الموسيقى تحمل رسائل سلبيّة وإيحاءاتٍ
متنوّعةً تختلف من عازفٍ إلى آخر. ويتأكّد التحفّظ على بعض أنواع الموسيقى من خلال
ما يُعرف بالرسائل الخفيّة التي تتضمّنها بعض أنواع الموسيقى. ومن هنا، نجد أنّ
كثيراً من الدول الغربيّة يصنّف الموسيقى بحسب الأعمار، ولا يسمح لأيٍّ كان بالوصول
إلى أيّ نوع من أنواع الموسيقى. والدخول في تفاصيل هذا الموضوع يحتاج إلى بحث مفصّل
ليس هذا محلّه(11).
(*)
أستاذ في الحوزة العلميّة.
1- للمزيد حول تعريف الموسيقى وتاريخها، انظر:https://en.wikipedia.org/wiki/Music
2- إشارة إلى قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ﴾
(فصّلت: 53).
3- الكافي، الكليني، ج2، ص614.
4- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج4، ص859.
5- الكافي، (م.ن)، ج2، ص614.
6- (م.ن)، ص615.
7- (م.ن)، ص305.
8- روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه، محمد تقي المجلسيّ، ج10، ص170.
9- انظر: هداية الأمة إلى أحكام الأئمة، الحرّ العاملي، ج6، ص29.
10- المزيد، انظر: المكاسب، الأنصاري، ج1، ص292.
11- انظر كمثال هذا الرابط على موقع بي بي سي الإنجليزي: http://www.bbc.com/culture/story/20141003-the-hidden-messages-in-songs
ويمكن لمن أراد المزيد البحث عن هذه العبارة في محرّكات البحث ليجد الكثير من
الدراسات والمقالات في هذا المجال: (negative messages in music).