لا ريب في أنّ الحياة الدائمة، والسعادة الأبديّة، موقوفان على "تهذيب الأخلاق"
وتزكيتها من شوب الدنس، وهذا لا يكون إلّا بالعمل على ما يقتضيه هذا الفنّ.
* تهذيب الأخلاق "الإكسير الأعظم"
إنّ تهذيب الأخلاق من أشرف الفنون وأفضل العلوم، وقد كان القدماء من الفلاسفة لا
يُطلقون العلم حقيقةً إلّا عليه، ويسمّونه "الإكسير الأعظم"، وكانوا يبالغون في
تدريسه وتدوينه، والبحث عن إجماله وتفصيله على ما أدّت إليه غاية أنظارهم، أو بلغه
مدى أفهامهم. ثمّ جاءت شريعة الإسلام -على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام-
فاضمحلّ في جنبها جميع ما قرّره الحكماء أو صدعت به الرسل والأنبياء. وما زال في
كلّ خَلفٍ من علماء الإماميّة مَن يرفع منار هذا العلم ويصدع بوظائفه.
بَيْدَ أنّ جماعة في عصرنا قد نبذوه ظهريّاً، وكان لديهم نسياً منسيّاً، فمالوا عن
وظائفهم، وترفّعوا بما يدّعون من معارفهم، وانهمكوا في جمع المال، وأغفلوا ما
وراءهم من سوء المآل، وغلبهم حبّ الجاه، فهم له كادحون، وأسرَتهم الدنيا، فهم لها
ولمن في يديه شيءٌ منها عابدون، وليس ذلك إلا لأنّهم لم يأتوا البيوت من أبوابها.
* انتفع بعلمك بصالح العمل
يجب على طلبة العلم خصوصاً أن يبدأوا بتزكية أخلاقهم، وتطهير قلوبهم وأعراقهم. فإذا
أحرزوا المكارم، شرعوا في الفنون العربيّة، والعلوم الدينيّة، أو اللغات الأجنبيّة،
والفنون الرياضيّة، أو غيرها من المعارف العصريّة؛ فإنّك لا تنتفع بعلمٍ ما لم
يهذّبك صالح العمل.
وإليك مثلاً يوقفك على الحقيقة:
إذا كان الإنسان ذا علّة توجب سقماً في بدنه، وانحطاطاً في بُنيته، فاشتغل عن
علاجها واستئصال شَأْفَتها بأكل الفواكه والمطبوخات والحلوى وسائر الطيّبات، فهل
يجديه ذلك إلّا الفناء العاجل والحلول في قعر الرجْم؟
وكذلك حال ذي الأخلاق السيّئة، والملكات الذميمة، إذا انصرف عن علاجها إلى علم
الصرف، أو تنحّى عن تهذيبها إلى علم النحو، أو عرج على الفقه وهو لا يفقه مكارم
الأخلاق.
* لصوص النفس الأمّارة
ومن أعجب ما في الإنسان مبالغته في حفظ حياته الجسمانيّة، وعدم التفاته إلى حياته
الروحانيّة؛ يطيع الطبيب اليهوديّ في شرب ما تَعافه الطبيعة، وتَنفرُ منه النفس؛
لاحتمال تحصيل صحّة بائدة، ويعصي الحكيم الربّانيَّ في تحصيل السعادة الدائمة.
ولعلّ ذلك من عدم اليقين وضعف الإيمان، نسأل الله العصمة برحمته.
فالعاقل من اجتهد في تزكية نفسه قبل العطب في مفازة الشقاء، أو التردّي في هوّة
العمى والضلالة.
ألا وإنّ للنفس الأمّارة لصوصاً تختلس مكنون الإيمان وتقطع سابلة التوبة، فأعدّوا
لهم ما استطعتم من قوّة قبل أن يقحموكم شفا جرف الهلكات، أو يولجوكم نيران الشهوات.
* أولادكم صحيفة بيضاء
انشطوا لتربية أولادكم في حداثتهم؛ فإنّ نفوسهم حينئذٍ خاليةٌ عن كلّ مَلَكة،
قابلةٌ لانطباع الأخلاق فيها بسهولة كصحيفة بيضاء تقبَل كلّ نقش يراد.
مرّنوهم على عبادة الله تعالى والخوف من أليم عذابه، وأدّبوهم بآداب الكتاب
والسنّة، وشوّقوهم إلى ما أعدّ الله تبارك وتعالى لأهل الجنّة، وأبعدوهم عن أهل
العقائد الفاسدة والأخلاق السيّئة؛ فإنّ القرب إليهم أوبى من ميكروب الوباء، وأقتل
للنفس من الجهل والهمجيّة العمياء.
والريح آخذةٌ ممّا تمرّ به
نتناً من النتن أو طيباً من الطيبِ
ومتى تفقّهوا في الدين، ورسخت فيهم عقائد المؤمنين، فلا جناح أن يتعلّموا الفلسفة
وسائر الفنون المرغوبة في هذا العصر، بل ينبغي مع مَن به الكفاية لعلوم الإسلام أن
يقوم منّا آخرون، في البحث عن هذه الفنون وتطبيقها على القواعد الشرعيّة.
* تهذيب النفس في تطهير القلب
الأخلاق السيّئة أعظم صارفٍ عن المعارف الإلهيّة، والفيوضات الربّانيّة. فالأنوار
العلميّة، والنفحات القدسيّة لا تحتجب عن الشخص لبخلٍ في المنعم جلّ وعلا، وإنّما
يحجبها عنه سوء أخلاقه، وما ران على قلبه من سوء عمله.
وكيف تشرق أنوار المعرفة في قلبٍ تضمّن القسوة، وتخلّى من الخضوع، وتفرّغ للزخارف،
وامتلأ من نوايا السوء، وأضمرَ الحقد والغلّ، وجُبل على الغضب الذميم، والشهوات
المردية؟
كلا إنّ "العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء"(1) ممّن هذّب أخلاقه، وطهّر
قلبه، وكان كما قال أمير المؤمنين عليه السلام حيث وصف العلماء الربّانيّين بقوله:
"هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره
المترَفون، وأنِسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها معلّقة
بالمحلّ الأعلى"(2).
ألا وإنّ القلوب كالأواني لا يدخلها شيء، وهي مملوءة من غيره؛ فإنّ الآنية إذا كانت
مملوءة من الماء لا يدخلها الهواء، والقلوب إذا كانت مشغولة بما يضادّ العلم لا
تدخلها المعرفة، ولا تشرق عليها النفحات القدسيّة.
أمّا إذا تفرّغتْ للعمل النافع، وغُسل درنها بظهور المراقبة، وتحلّت بزينة الخشوع،
ورُفعت عنها حجب السيّئات، فلا جرم تتفجّر منها ينابيع الحكمة، وتتفتّح لها أبواب
الهداية، ويتّضح لذويها سُبل المعرفة، فيكون أحدهم مصداقاً لقول أمير المؤمنين عليه
السلام: "فزهر مصباح الهدى في قلبه...، وخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى،
وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى، قد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف
مناره، وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبال بأمتنها، فهو من اليقين
على مثل ضوء الشمس"(3).
ولا بدّ في تحصيل هذه المراتب أو بعضها من المجاهدة العظيمة، والمراقبة الدائمة،
والمحاسبة بكلّ دقّة حتّى ينقى قلبه وتزكو أخلاقه.
نسأل الله التوفيق لذلك بلطفه وكرمه، إنّه أكرم الأكرمين.
(*) مقتبس من موسوعة الإمام المقدّس السيد عبد الحسين شرف الدين قدس سره، وهي
رسالة كان قد كتبها بيده الشريفة، وطُبعت في مجلة العرفان على دفعات.
1- مصباح الشريعة المنسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام، الباب 6، ص 16.
2- نهج البلاغة، الحكمة 147.
3- (م.ن)، الخطبة 87.