(من توجيهات آية الله الشيخ بهجت قدس سره)
الشيخ محمّدي الري شهريّ
للعارف الكبير آية الله الشيخ محمّد تقي بهجت قدس سره علاقةٌ خاصّة مع القرآن
الكريم، يتدبّر آياته، وينهل من معينه العذب ما يزيده معرفةً بالله سبحانه وتعالى،
وقرباً منه. وما يميّز آية الله بهجت قدس سره أنّه كان يبادر إلى نصح الآخرين بما
ينفعهم في الدنيا والآخرة؛ فصدرت عنه مجموعة من الوصايا حول حفظ القرآن الكريم
وحَفَظَتِه الكرام، يرويها سماحة الشيخ محمّدي الري شهريّ، نضعها أمام قرّائنا
الأعزّاء لأهميّتها؛ راجين المولى تعالى أن تنفعهم وتفيدهم إن شاء الله تعالى(1).
* تأكيده على حفظ القرآن
في سنة 1383 هـ.ش، كان الموضوع الذي انتخبناه للتبليغ في الحجّ هو القرآن الكريم.
وخلال لقاء معه قبل السفر إلى الحجّ، قال قدس سره: "قولوا لرفقائكم أن يسعوا لحفظ
القرآن الكريم، وأن بإمكانهم أن يضعوا برنامجاً لحفظ 5 آيات في اليوم. لا مشكلة في
ذلك، لكن الشيطان يقول توجد مشكلة في الحفظ، بل هو محال!".
ثمّ ينقل قدس سره ما قاله له أحد الأشخاص عن تجربته في حفظ القرآن: "في ظرف شهرين
أو ثلاثة -وبشكل غير متوقَّع- ختمتُ القرآن الكريم وحفظته، ولم أكن قاصداً حفظَه".
وقد نُقل عنه قدس سره قوله: "الله يعلم كم لحفظ القرآن من مدخليّة في الاستفادة من
هذا المعدن والمنبع للرحمة الإلهيّة".
ثمّ يشير الشيخ الري شهريّ إلى بعض آثار حفظ القرآن الكريم المذكورة في أحاديث أهل
البيت عليهم السلام؛ كنعمة دوام العقل، والحفظ من الجنون، وأولويّة الحافظ في صلاة
الجماعة، وأنّ جسده لا يبلى في القبر، وأنّه ينال أعلى الدرجات في الجنّة... وغير
ذلك.
* مراتب حفظ القرآن
لحفظ القرآن مراتب عديدة، فحفظ ألفاظ القرآن هو أقلّ تلك المراتب. في هذه المرتبة
يضمّ الإنسان لروحه ألفاظ القرآن وعباراته، ولهذه المرتبة من الحفظ آثارها وبركاتها
الخاصّة، لكن ثمّة مرتبة أعلى منها، وهي أن تنفذ معاني هذه الألفاظ إلى روح الحافظ،
وتوجِد فيه تحوّلاً معنويّاً؛ إذ كلّما زاد نفوذ القرآن عمقاً في الروح كلّما نال
الحافظ مراتب أعلى من حفظ القرآن.
وللإشارة إلى هذا الأمر الدقيق، خاطبني الشيخ بهجت قدس سره قائلاً: "في مجال حفظ
القرآن، فكّروا في الحصول على المراتب العُليا من الحفظ".
ثمّ أشار قدس سره إلى كلام ابن أبي الحديد في نهج البلاغة، الذي يذكر فيه أنّه
تأثَّر تكراراً ومراراً بخطبة من خطب نهج البلاغة، حيث يذكر في ذيل الخطبة (216)،
ضمن وصف رائع لفصاحتها، فيقول:
"وأقسم بمَن تُقسم الأمَمُ كلُّها به، لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن
أكثر من ألف مرّة، ما قرأتها قطّ إلّا وأحدثتْ عندي روعةً وخوفاً وعِظةً، وأثّرت في
قلبي وجيباً، وفي أعضائي رعدةً، ولا تأمّلتها إلّا وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي
وأرباب ودّي، وخُيّلت في نفسي أَنّي أنا ذلك الشخص الذي وصف عليه السلام حاله"(2).
فإذا كان نهج البلاغة مؤثّراً في الإنسان إلى هذا الحدّ، فلا بدّ من أن يترك القرآن
في قلب الحافظ آثاراً وبركاتٍ أكثر.
* حفظ القرآن والعمل به
إنّ العمل بالقرآن واتّباع أحكامه النورانيّة في حياتنا الفرديّة والاجتماعيّة، هو
وظيفة جميع أتباع هذا الكتاب السماويّ، لكنّ الله تعالى، بلا شكّ، يحبّ ذلك من
الحافظين للقرآن أكثر من غيرهم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولُه: "إنّ
أحقّ الناس بالتخشّع في السرّ والعلانية لَحاملُ القرآن، وإنّ أحقّ الناس في السرّ
والعلانية بالصلاة والصوم لَحاملُ القرآن"(3).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم في مَن لا يعمل بالقرآن مِن بعض الحفظة أنّه قال: "يأتي
على الناس زمان يتعلّمون فيه القرآن، فيحفظون حروفه، ويضيِّعون حدوده، فويلٌ لهم
ممّا جمعوا، وويلٌ لهم مما ضيّعوا"(4).
وفي بعض اللقاءات مع آية الله بهجت قدس سره، وحيث إنّ كاتب هذه السطور نفسه (الشيخ
الري شهريّ) حافظ للقرآن، قال قدس سره: "على حافظ القرآن أن يعمل به، وإلّا...
يشمله الحديث الأخير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم".
وفي هذا المجال، نُقِل عن آية الله بهجت أنّه قال: يقولون إنّ تيمورلنك كان يرى
نفسه مجتهداً، وكان يدّعي أنّ بإمكانه استنباط الأحكام من القرآن، وكان حافظاً
للقرآن، بل هو يمتاز من بين حفظة القرآن أنّه كان يمكنه تلاوة القرآن من آخره إلى
أوّله (أي بالعكس)!
وفي إحدى الحروب قُتل ولدُه، وبعد أن فكّ الحصار وتغلب على الأعداء، دخل المدينة
وقتل قاتل ولده، ثمّ مصّ دمه وشربه. نعوذ بالله. لم نرَ مجتهداً وحافظاً للقرآن
كهذا! كان ديدنه في الحرب أنّه إذا استسلمت المدينة فهو، وإلّا يعتبر أهلها كفّاراً،
ويبيح نفوسهم وأعراضهم.
* التدبّر والخشوع أثناء التلاوة
التدبّر في مفاهيم القرآن وحضور القلب والخشوع أثناء تلاوته من الآداب الواردة التي
صرح بها هذا الكتاب السماويّ نفسه، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو
الْأَلْبَابِ﴾ (ص: 29)، وقال سبحانه: ﴿أَلَمْ
يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا
نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ
فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾
(الحديد: 16).
وفي هذا الصدد، يقول آية الله بهجت قدس سره: "كان هناك شخص جليل في تبريز لديه
كمالات عديدة، من جملة ذلك أنّه كان يقرأ كلّ يوم صفحة أو ورقة من القرآن الكريم،
وكان يقول: "إنّ الله تعالى منَّ عليَّ بنعمتين: إحداهما أن وفقني للبكاء في عزاء
سيّد الشهداء عليه السلام، والأخرى أنّني لا أقرأ القرآن بكسل".
في نظر هذا العبد؛ هذا كلام عظيم جدّاً. فالقرآن له تلك العظمة، بحيث يقول الله
تعالى في حقّه: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر﴾ (القمر: 17).
هل من الصحيح، بعد هذه النعمة الإلهيّة التي أنعم الله بها علينا، أن نكون في وقت
تلاوة القرآن، بدون حضور وتوجّه وتدبّر -نعوذ بالله- كحال الذين لا يُقبلون على
القرآن، ونكتفي بلقلقة اللسان، مع أنّه ورد في الرواية: "أنا جليس من ذكرني"(5)،
والقرآن ميسَّر للذكر؟ والذاكر للقرآن ذاكرٌ لله الجليل ومتوجّه إليه، كمثل شخصَين
يتحدّثان مع بعضهما بعضاً.
نعم، هذا الحدّ من العظمة متوفّر لنا، ولم يوجد لأي أمّة مثل هذه الخواصّ والآثار".
1- مقتبس من كتاب الشيخ محمدي الري شهري؛ زمزم عارفان،
بالفارسية، حيث قمنا بتعريبه وتحريره بتصرف بسيط.
2- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 11، ص 153.
3-ميزان الحكمة، الري شهري ج 9، ص 344، ح 16652.
4-الفردوس، الديلمي، ج 5، ص 443، ح 8686.
5- الكافي، الكليني، ج 2، ص 496.