صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

القرآن كلمة الله الخالدة



الشيخ محمد زراقط(*)


المعجزة من الأمور التي اقترنت بإرسال الرسل عليهم السلام. وللمعجزة أهدافٌ عدّة، أهمّها أنّها وسيلة إثبات يستند إليها النبيّ كدليل للناس بأنّه مُرسل يحمل إلى البشريّة رسالة من ربّ العالمين سبحانه وتعالى. ولولا المعجزة لانفتح باب دعوى النبوّة والرسالة لكلّ مدّعٍ، ولاضطرب حبل الهداية الموصول بين الأرض والسماء. وقد تنوّعت المعجزات واختلفت من نبيٍّ إلى آخر بحسب تنوّع البيئة الاجتماعيّة التي ظهر فيها النبيّ، خاصّة أنّ بعض المعجزات التي أتى بها الأنبياء كانت بطلبٍ من الناس، إمّا بصدقٍ رغبةً في العثور على دليلٍ يثبت صدق النبيّ أو معاندةً واختلاقاً للأعذار.


* لا إكراه في الدين
هذا ولكنّ من شروط المعجزة أن لا تصل إلى درجة تقهر الإنسان على الإيمان والتصديق، لأنّ الله لا يريد أن يقهر الناس على الإيمان؛ لأنّ الإيمان والدين والتديّن أمورٌ تفقد قيمتها وحقيقة جوهرها عندما تحصل تحت ضغط الإكراه والقهر، وهذا ما تؤكّده آيات عدّة في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99). والقاعدة الأساس في الدعوة إلى الله هي الدخول في الدين والإيمان به بالاختيار الحرّ البعيد عن الإكراه والجبر، وهذه قاعدة عامّةٌ تشمل الأنبياء وغيرهم، وهي ما دلّ عليه قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: 256). وبالنظر إلى معجزات الأنبياء جميعاً نجد أنّها لم تكن ضاغطةً مكرهةً؛ ولذلك آمن من آمن، وبقي على الإنكار من بقي. ولكنّ خصوصيّة الاختيار الحرّ تصل إلى أعلى درجاتها مع معجزة النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي القرآن؛ وذلك لأنّها تخاطب العقل وتدعوه إلى التأمّل وإعادة النظر. والميزة الأخرى التي يمكن ذكرها لهذه المعجزة هي أنّها معجزة باقية لا تتوجّه إلى جماعة محدّدة من الناس، بينما نجد أنّ سائر المعجزات تتوجّه إلى جماعة محدودة من الناس وتفقد شيئاً من قدرتها الإثباتية عند غيرهم؛ لأنّ من لا يكون حاضراً لا تترك المعجزة فيه نفس الأثر الذي تتركه في الحاضر، وهذا من الواضحات "فما راءٍ كمن سمع".

* وجوه الإعجاز في القرآن الكريم
ذكر العلماء وجوهاً لإعجاز القرآن الكريم، بعضها يدركه من يعرف اللغة العربية وبعضها يتوقّف إدراكه على المعرفة باللغة العربية؛ بل على إتقانها، أمّا الوجوه العامّة التي يدركها جميع الناس فهي:
1- الإعجاز العلمي: حيث وردت في القرآن الكريم آيات عدّة تتحدّث عن بعض الظواهر الكونية وغير الكونية التي كان يعجز الإنسان عن معرفتها وقت نزول القرآن. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ (الذاريات: 47)، ويفهم بعض المفسّرين المعاصرين من هذه الآية أنّها تشير إلى نظرية توسّع الكون(1).

2- الإعجاز بالإخبار عن الغيب:
وقد توقّف المفسرون وعلماء القرآنيات عند عددٍ من الآيات التي أخبرت عن وقائع وأحداث قبل وقوعها في زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. ومن أشهر الأمثلة على هذا إخباره تعالى عن انتصار الروم على الفرس وعن فرح المؤمنين بهذا النصر، وذلك في قوله عزّ وجلّ: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ (الروم: 1-2).

3- الإعجاز الأدبيّ:
وهو أحد أوجه إعجاز القرآن الكريم، التي توقّف عندها المفسرون وعلماء القرآنيّات طويلاً؛ بل يمكن القول بشكلٍ من الأشكال إنّ البحث في البلاغة العربية بدأ من باب الاهتمام ببيان إعجاز القرآن الكريم. ومن النماذج الأولى في هذا المجال يمكن الإشارة إلى كتاب دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني.

* دور القرآن في تثبيت نبوّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
للقرآن الكريم أدوارٌ عدّة في حياة المسلمين الدينيّة؛ فهو المصدر الأوّل لمعرفة كثير من الأسس التي يبتني عليها الإسلام، سواء في ذلك: التشريع، والعقيدة، والأخلاق وغيرها. ومن أهمّ الأدوار التي أدّاها القرآن الكريم وما زال يؤدّيها أنّه وسيلة إثبات يُستند إليها للاستدلال على نبوّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا وجهٌ آخر من وجوه الإعجاز أشار إليه القرآن نفسه في بعض آياته، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ (البقرة: 23)(2).

* أسباب اختيار العربية لغةً للقرآن
يصرّح القرآن في أكثر من آية بأنّه كتابٌ عربيّ(3). وقد تساءل بعض الناس عن أسباب اختيار اللغة العربية لغةً للوحي النازل على خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم. وطُرِحت أجوبةٌ عدّة في هذا المجال، منها أنّ اللغة العربيّة أقدم من سائر اللّغات المرشّحة كالعبريّة مثلاً، على حدّ قول بعض الباحثين؛ ومنها أنّ اللّغة العربيّة أغنى من سائر اللّغات من ناحية الجذور والموادّ التي تشتقّ منها الكلمات، ومنها ما فيها من الجمال وخاصّيّة الاشتقاق التي تسمح بتنويع المعاني من الكلمة الواحدة، ومنها وجود ظاهرة الترادف والاشتراك، وغير ذلك من الخصائص التي يذكرها علماء الألسنيّات للّغة العربية بالمقارنة بغيرها(4).

هذا، ولكن يمكن القول إنّ نزول القرآن باللّغة العربيّة هو أمرٌ وقع على مقتضى طبع الأمور، وذلك أنّ الله لم يختر نبيّه الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم من بين عدد من المرشّحين لهذه المهمّة؛ بل إنّه اصطفاه لهذه المهمّة التي لم يكن غيره لينجزها. وما دام المرشّح لهذه المهمّة واحداً بعينه ليس له من ينافسه، فقد كان من الطبيعيّ أن ينزل الوحي عليه بهذه اللغة، وَفق القاعدة التي أسّسها عزّ وجلّ في إرسال الأنبياء، وكشف عنها بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (إبراهيم: 4)، ولا مبرّر لاستثناء الرسالة الخاتمة من هذه القاعدة المنطقيّة المبرّرة. يُضاف إلى هذا أنّ عربيّة القرآن لم تكن عائقاً أمام انتشار الإسلام في أرجاء المعمورة، كما تؤكّد التجربة التاريخيّة لانتشار الإسلام، بعد أن توفّرت البيئة الحاضنة للدعوة، بخلاف العكس. وهذا ما يسمح بالحديث عن عالمية الرسالة الإسلاميّة على الرغم من عربية لغة القرآن.

* عربية القرآن وعالمية الدعوة
وعلى الرغم من عربية القرآن، فإنّ الناظر فيه يلاحظ مجموعة من الخصائص التي تحول دون صبغ هذا القرآن بصبغة قوميّة، وتحديده بحدود العرب وأهل اللّغة العربيّة. والمؤشّرات في هذا المجال كثيرةٌ نكتفي بذكر بعضها:

أ- عموم الدعوة لجميع الناس

من السمات البارزة في القرآن الكريم أنّه يتوجّه بخطابه إلى البشريّة كلّها، بعبارة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ التي وردت في القرآن عشرين مرّة على الأقلّ. وفي موارد أخرى حدّثنا تعالى عن الإنسان عموماً، وقدّم هدايته للإنسان بغضّ النظر عن لغته وعرقه وانتمائه المناطقيّ. وفي الموارد التي خصّ الله تعالى بها بعض الناس بالخطاب كالمؤمنين، نجده تعالى يعمّم الخطاب للمؤمنين بغضّ النظر عن انتماءاتهم الأخرى. كما أنّه تعالى يخاطب أهل الكتاب في عددٍ من الآيات، وأهل الكتاب هم المسيحيّون واليهود، الذين كانوا يعيشون في الجزيرة العربية أو على أطرافها، وكانوا بشكلٍ أو بآخر مختلفين عن البيئة العربيّة التي نزل فيها القرآن، ولكنّ هذا الاختلاف لم يكن حاجزاً دون توجيه الخطاب إليهم.

ب- تجنّب الإشارات القوميّة

من ينظر في القرآن الكريم يلاحظ أنّه يتجنّب الإشارة إلى قومية خاصّة وجِّهت إليها الدعوة الإسلاميّة أو اختصّت بها. ولم يرد ما يوحي بمثل هذا الاختصاص إلّا في عدد قليلٍ من الآيات التي لها ظروفها ويمكن أن تُفهم في سياقها الخاصّ بها بطريقة لا تتعارض مع عالميّة الدعوة الإسلامية. وأكتفي بالإشارة إلى آيتين ولعلّهما الوحيدتان في هذا المجال، وهاتان الآيتان هما قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ (الشعراء: 214)، وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ (الزخرف: 44). وهاتان الآيتان لا تتنافيان مع عالميّة الإسلام ولا تجعلان منه ديناً قوميّاً، فإنّ الآية الأولى منهما تؤرّخ لمرحلة من مسار الدعوة الإسلاميّة كان من الطبيعيّ أن يبدأ فيها بدعوة أقاربه في مجتمع قبليٍّ يقتضي مراعاة القرابة وصلة الدم، ويتّضح الأمر أكثر بعد أن نعرف أنّ هذه الآية نزلت بعد انتهاء مرحلة الدعوة السرّيّة التي آمن فيها عددٌ من الأشخاص من خارج دائرة القرابة مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. والآية الثانية كلّ ما فيها هو وصف القرآن بأنّه ذكرٌ للنبيّ وذكرٌ لقومه، وهذا لا يتنافى مع كونه ذكراً وتذكرةً لغيرهم من الأمم والشعوب. وأمّا في الموارد التي حدّثنا فيها عن العرب فنجده ذمّ بعضهم، وانتقد بعض عاداتهم، ولم يكن في أيّ سورة من سوره بصدد التأريخ لهم أو الحديث عنهم من ناحية هويّتهم القومية. ومن هنا يمكن القول إنّ القرآن يختلف من هذه الناحية عن العهد القديم الذي هو بشكلٍ أو بآخر تاريخ للشعب اليهوديّ.


(*) أستاذ في الحوزة العلمية، ومدير مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ.
1- انظر: الشيخ محمد جواد مغنية، التفسير الكاشف، ط3، دار العلم للملايين، بيروت، 1981، ج 7، ص 157.
2- بناءً على أنّ المقصود من هذه الآية التحدّي بالإتيان بسورة من مثل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
3- من ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (سورة يوسف: الآية 2)
4- وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا البحث تخصّصيٌّ يحتاج إلى مزيد من النقاش ولكن ما نحن فيه لا يتوقّف على التفصيل في هذه النقطة.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع