الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين قدس سره
إنّ الإنسان روحٌ وبدن، ولكلٍّ منهما صحّة ومرض،
والمتكفّل لبيان صحّة البدن ومرضه وأنواع معالجته إنّما هو علم الطبّ، والمتكفّل
لبيان صحّة الروح بمكارم الأخلاق، ومرضِها برذائل الصفات، وتفصيل أدوائها وأقسام
علاجها إنّما هو علم الأخلاق، فليطلبه من أراد الكرامة في دار المُقامة. وهو "علم
تُعرف به سعادة النفس وشقاؤها"، وغايته: "إكمال الإنسان"، وموضوعه: "النفس الناطقة"،
وهي أشرف أنواع الأكوان، فيكون هذا العلم أشرف العلوم؛ لأنّ شرف العلوم بشرف موضوعه
أو غايته. فما هي الأخلاق التي بُعث بمكارمها خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله
وسلم؟ وهل الأخلاق تتغيّر؟
* من التوحيد إلى التهذيب
بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بمكارم الأخلاق ومحامد الصفات من توحيد
الله تعالى، وتعظيمه بأنواع العبادات، وبرّ الوالدين، وصلة الأرحام، وحفظ الجوار،
وإرشاد الضالّ، وتعليم الجاهل، وتعظيم الكبير، وتهذيب الصغير، والتعاون على البرّ،
والاستباق إلى الخير، وكظْم الغيظ، والعفو عن المسيء، والإحسان إلى الناس، ودفع
السيئة بالتي هي أحسن؛ ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصّلت: 34)،والاعتراف
بالحقّ، والإنصاف للخلق، والشهادة بالقسط؛ ﴿وَلاَ
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة:
8).
* من مكارم الأخلاق
وبعثه صلى الله عليه وآله وسلم بمكارم، منها: إصلاح السرّ؛ فإنّ من أصلح سرّه أصلح
الله علانيته، والعمل للدِّين؛ فإنّ من عمل لدينه كفاه الله أمر دنياه، وقبول الصلح
من العدوّ إذا كان موافقاً للشرع، فإنّه ما عُرض على قوم فأبوا إلّا ورثوا الحسرة
والندامة.
والأخذ بالحذر من العدوّ بعد صُلحه؛ فإنّ مقاربته قد تكون لمكيدة، والنزاهة عن
الخلف بالوعد؛ فإنّه يوجب المقت؛ ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ
اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ (الصف: 3)، وترك العجلة
بالأمور قبل أوانها؛ فإنّها تورث الندامة، وترك الاستبداد في الحقوق العامّة؛ فإنّ
الله قد أوجب فيها المساواة، والإقامة على العذر الواضح عند الله تعالى وعند الناس؛
فإنّه من الدين والعقل بمكان.
والبعد عن الدماء وسفكها بغير حلّها؛ فإنّه ليس شيء أدعى لنقمة، ولا أحرى بزوال
نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقّها. والبراءة من الشحّ والجبن؛ فإنّهما
ينقصان المروءة، والنزاهة من القسوة والغفلة؛ فإنّهما توجبان السخط، وتبعّدان عن
الله تعالى، والطهارة من الحسد؛ فإنّه موجع للقلب، واجتناب الاحتكار في البيوع؛ فإنّ
ذلك مضرّة للعامّة، وعيبٌ في السلطان.
والحذر من أن يكون الإنسان من المطفّفين؛ ﴿الَّذِينَ
إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو
وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ *
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (المطففين: 2-5).
* الأخلاق وتحرير النفس
ومن مكارم الأخلاق، الارتياد للنفس في دار القرار؛ فإنّه ليس بعد الموت مُستَعتَب،
وإكرامها عن كلّ دنيّة؛ فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، وإطلاقها من
عبوديّة سواه تعالى؛ فإنّه قد جعلها حرّة.
وتنزيهها عن الطمع؛ فإنّه يوردها موارد العطب، ومقارنة أهل الخير؛ فإنّ مَن قارنهم
كان منهم، ومبايَنة أهل الشرّ؛ فإنّ من باينهم بانَ عنهم، وترك الاتّكال على المُنى؛
فإنّها بضائع النَّوكى [الحمقى].
وما لا يُحصى ممّا اشتمل عليه الكتاب والسنّة، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام،
وأبنائه المعصومين عليهم السلام. فالمستنّ بسنن نبيّه والمقتفي لأثره إنّما هو
الكريم في خلقه، المهذّب في أفعاله. أمّا من فسدت أخلاقه أو ساءت نعوته، فإنّه
مخالف لسُننه المقدّسة، يَرِد مذموماً ويصدر مدحوراً.
أمّا من حاز مكارم الأخلاق فإنّه الأمثل بالصدّيقين، والأولى بسنن النبيّين (سلام
الله عليهم أجمعين).
* الأخلاق تتغيَّر بالأفعال
الأخلاق ملكات في النفس تقتفي صدور الأفعال بسهولة، والحقّ في إمكان تغييرها؛ لعدم
ما هو ذاتي(1) منها؛ ولذا قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ
مَن زَكَّاهَا﴾ (الشمس: 9)، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"(2)؛ فإنّه لم يُبعث بالمُحال، وقال صلى الله عليه
وآله وسلم: "حسّنوا أخلاقكم"(3)؛ فإنّه لا يأمر بالممتنع.
ألا ترى أنّ كثيراً من الأخيار أمسوا أشراراً، وكثيراً من الأشرار أصبحوا أخياراً؟
وربّ جبانٍ مُحجِمٍ يكون بمعاشرة الشجعان، ومصاحبة الفرسان، وممارسة النزال،
ومعاركة الأهوال مِقداماً شجاعاً. ورُبّ شجاعٍ يكون بمخالطة أهل الهلع والخوف،
وعلاقته معهم، وإصغائه إليهم جباناً مُحجماً.
دع الإنسان، وعُجْ على أخلاق البهائم، تجد الفرس الجموح يكون بالعلاج منقاداً سلساً،
والحيوان الوحشيّ يكون بالملاطفة آنساً.
ولو كان تغيير الأخلاق محالاً وزوالها ممتنعاً، لبطل التأديب والسياسة، وكانت
الشرائع والأديان عبثاً، وهذا من الأدبيّات الأوّليّة، وإنْ كابر في الإمكان من
يترأّس بثياب العلماء وهو عن الفهم بمعزل، حيث أصرّ على أنّ مطلق الأخلاق لا يُعقل
زوالها، وجميع الخلال والصفات لا يمكن تغييرها بلا عروة يُستمسك بها، ولا برهانٍ
يستضيء بنوره. بيد أنّه مقلّدٌ لشذاذٍ من قدماء الطبيعيّين المخالفين لجميع الشرائع
والأديان، والحاكمين هنا بضدّ العقل والوجدان، وكأنّه صار إلى قولهم طلباً للراحة
وهرباً من مشقّة الرياضة؛ لأنّها على رأيهم من العبثيّات؛ وذلك أنّ مقاساة مشقّتها،
والصبر على أعباء كلفتها لا يحسن إلّا إذا كان ذريعةً إلى زوال الأخلاق الفاسدة،
ووسيلةً إلى تطهير أرجاسها. وهذا لا سبيل إليه بناءً على ذلك الرأي الفاسد.
* الذين جاهدوا لنهديّنهم
فلا عذر لمَن استشعر فساداً في أخلاقه، أو نقصاً في نفسه حتى يبذل جهده في إصلاح ما
فسد من مَلَكاته، وإكمال ما نقص من ذاته وصفاته.
ولا ينبغي لمن أسرف على نفسه، وأولع في ما يوبقها، أن يقوده القنوط إلى الإعراض عن
مجاهدتها، فإنّ الله تعالى يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69)، ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ (الزمر: 53).
لكن لمن أقلع عن ذنبه، وأناب إلى ربّه، وهذّب أخلاقه، وطهّر أعراقه؛ فإنّ مكارم
الأخلاق من أعظم المنجيات الموصلة إلى السعادة الأبديّة، ورذائلها من أكبر المهلكات
الموجبة للشقاء السرمدي.
(*) مقتبس من رسالة في موسوعة الإمام المقدّس السيد عبد الحسين شرف الدين قدس
سره، وهي رسالة كان قد كتبها بيده الشريفة، وطبعت في مجلة العرفان على دفعات.
1- فإنّ ما بالذات لا يزول بحكم العقل، أي أنّ الأمر الذاتي لا ينفصل عن صاحبه ولا
يزول عنه؛ لأنّه من شؤون ذاته التي دونها لا يكون هو نفسه. وهذا حكمٌ عقليّ، لا
استثناء له. والأخلاق هي حالات تعرض على أنفسها؛ لذلك يمكن لها أن تتغيّر.
2- السنن الكبرى، البيهقي، ج10، ص323؛ مكارم الأخلاق، الطبرسي، ج1، ص36.
3- إحياء علوم الدين، الغزالي، ج3، ص61.