الشيخ بسّام محمد حسين
إن معرفة عِظَم نعمةٍ ما على البشرية، تعود إلى دراسة آثارها وفوائدها على مستوى
الدين والدنيا. ولو تأملنا في فوائد الحكم ودوره في تنظيم حياة الإنسان، وتدبير
شؤون البشر وأمورهم، نجد أن ما توصل إليه العقلاء من ضرورة هذا الأمر في حياتهم هو
مقتضى الفطرة الاجتماعية التي تنشد العدالة، وتصبو إلى تحقيق أهدافها.
وإذا كان الدين بما يحمل من مفاهيم ومعارف، جاء ليحقق سعادة الإنسان التي تشكل
العدالة محوراً أساساً فيها، فإنه من غير المنطقي أن يبتعد عن الجانب السياسي
والاجتماعي، وهو ما يُعرف بشكل عام بفكرة "الفصل بين الدين والسياسة"، بل يمكن
القول إن من أعظم الجنايات التي ارتكبت في حق الدين في التاريخ، هو هذا الشعار
الزائف الذي أبعد الدين عن مسرح الحياة العامة، وجعله يتحرك في مضائق الأهداف
الصغيرة، كخطوة لإحراجه ثم إخراجه من حياة الناس بشكل كامل.
ومن هذا المنطلق، فالإسلام كدين إلهي حق، وشريعة ربّانيّة وحيانيّة خاتمة، جاء
ليحكم، ولا يمكن أن يفصل الجانب السياسي والاجتماعي عنه، فذلك يعني نقص هذا الدين
وعدم اهتمامه بجوانب أساسية من حياة البشر، وهو ما لا يمكن أن ينسجم مع تعاليم
الوحي وخاتمية الرسالة بوجه.
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الحاكم والولي أيضاً، وكذلك الأئمة
المعصومون عليهم السلام من بعده، لهم هذا المنصب، ولهم هذه الولاية التي هي امتداد
طبيعي للدور الإلهي المعطى لهم من الله تعالى.
وإن جولة سريعة على التشريعات التي جاء بها الإسلام في أبواب الفقه المختلفة، من
عبادات ومعاملات وأحوال شخصية، وسعة مساحة هذه الأحكام بحيث تجيب عن كل شاردة
وواردة، بحيث لم تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا ولها حكم، تفيد بوضوح أنّ هذه الشريعة
هي شريعة شاملة عامّة، تسع كل مرافق الحياة، وتنظم حياة الإنسان وفق ما أراده الله
تعالى له، بحيث توصله إلى غايته المنشودة، وكماله المرجو في صراط العبودية.
ثم في زمان غيبة إمامنا المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، من الذي ينوب عنه في
إدارة شؤون هذه الأمة؟! ومن يقوم بالإشراف على نظام الحكم ومتابعته؟
لا نجد بين أفراد الأمّة من يمكنه أن ينوب عن الإمام في هذه المسؤولية الخطيرة،
بحيث نضمن أعلى درجة ممكنة من التطبيق في زمان الغيبة، كالفقيه الجامع للشرائط،
الذي يتحلّى بالصفات الخاصة التي تؤهلّه لتسلّم هذا المنصب الكبير.
وقد قدم الإمام الخميني قدس سره، النموذج الفريد والرائد على مستوى هذه التجربة،
التي استمر العمل بها إلى اليوم بشخص الإمام الخامنئي دام ظله، وهي تجربة يمكن
تلمُّس نجاحاتها من الشفافية الكبيرة التي اتّسم بها الإمام الخامنئي دام ظله في
التعبير عنها في كلماته، حينما كان يلقي بالمسؤوليات على طبقات المجتمع كافة، حيث
رسم الاستراتيجيات والأهداف التي عملت عليها الجمهورية الإسلامية ولا تزال تعمل،
وما هي الأهداف التي أنجزت وتحققت، وضرورة متابعة الطريق في هذا الاتجاه.
ويعتبر الإمام الخامنئي دام ظله أن هناك سلسلة منطقية لا بد من أن تمرّ بها تجربة
الحكم الإسلامي، ففي البداية هناك مرحلة الثورة الإسلامية، ثم تشكيل النظام
الإسلامي، ثم تشكيل الدولة الإسلامية (تشكيل الأجهزة والسلطات، وليس السلطة
التنفيذية فقط)، ثم تشكيل المجتمع الإسلامي، وأخيراً، مرحلة الأمة الإسلامية.
ثم بشفافية قل نظيرها، يبدأ بتقويم هذه التجربة الفريدة، فيرى أنّها نجحت في أول
المراحل: الحركة الثورية التي أطاحت بالنظام الفاسد، وأوجدت أرضية لقيام نظام جديد.
ثم في المرحلة الثانية نجحت في تأسيس نظام إسلامي، شكّل الهوية الكلية للنظام الذي
انبثقت حاكمية الشعب فيه من الإسلام، متوافقاً مع القيم الإسلامية، ولا زال العمل
في المرحلة الثالثة؛ الدولة، فرغم أنها قطعت شوطاً كبيراً على هذا الصعيد إلا أن
هناك عملاً كبيراً لا زال ينتظرها، ويحتاج إلى جهود الجميع في هذا المجال(1).
إن هذا الكلام العلمي والمنطقي والمسؤول من شخص يقف على رأس النظام، يدلّ على حجم
الإنصاف والتواضع والكفاءة والحكمة، التي يتّسم بها هذا الإنسان العظيم، والفقيه
العالم بزمانه، الذي لا تهجم عليه اللوابس(2).
1.يراجع: خطاب الولي، 2011م، ص 487-488.
2. ورد ذلك في رواية في الكافي، ج 1، ص 27.