كانت عيناه جامدتين على الأسلاك الكهربائية، يخشى أن
ترمشا، حتى لا تضيع عليه من الزمن لحظة، وكانت يداه تعملان بهدوءٍ وسكينة وجلادة،
يخشى أن تخطئا فتضيع هذه اللحظات الثمينة.. فكانت نظراته تسابق أصابعه وهي تكمل
الدورة الكهربائية بكل تؤدةٍ وروية..
(نور) من الرجال الذين أوكلت إليهم مهمة رشق الصواريخ على مستعمرات الغرباء في الجليل الأعلى كلما حصلت غارة وحشية يهودية على الآمنين في بلادنا، كانت الأوامر صارمة في تلك الساعة، فالعدو اليهودي صبَّ أطنان المتفجرات فوق رؤوس السكان والأبرياء، ولم تجد المقاومة بداً من الرد، فأخذت الطيور المهاجرة تعود ليلاً، تعبر الحدود بوميضٍ كالبرق وصوتٍ كالرعد، أبابيل أبابيل، رشقة رشقة، تنهال على رسل الحضارة الغربية ممن احتل قرانا ومزارعنا وسماها مستعمرات ويتكلمون في بروعنا برطانة ولغات لم تألفها بلاد التين والزيتون والشومر قبلاً...
ورغم السيطرة الجوية
الكاملة والحركة الدائمة للطوافات التي كانت تدمر كل ما يتحرك، ورغم أزيز طائرات
الاستطلاع وإعطاء الإحداثيات والتي كان وجودها في المنطقة يعني ناراً وقذائف
وصواريخ وغارات.. ورغم سيل القذائف وغزارة القصف على تلك البقعة المحدودة التي
تحوّلت إلى ما يشبه كسَّارة.. حتى إن القذائف التي سقطت هناك قدّرت بمئة وخمسين
قذيفة ولم تكن لتتحرك سيارة إلا وتكون هدفاً سهلاً لكل آلات الدمار التي سلطت على
هذه المنطقة..
رغم كل ذلك.. اندفع نور بسيارته المحمَّلة بالصواريخ يريد الوصول إلى أقرب الأمكنة
التي يطال منها المستعمرات المنتشرة كالأورام السرطانية في الجليل الأعلى... ونفس
هذه الأمكنة كانت ملوّنة بالأحمر في الخرائط العسكرية اليهودية، فهم يعرفون نوعية
هذه الصواريخ ومداها وبالتالي هم يعرفون بدقة الأمكنة التي يجب أن تنطلق منها في
جبل عامل حتى تصل إلى المستعمرات.
فصبّوا على هذه الأمكنة كل ما يمكن أن ترميه آلات التدمير وأرسلوا طائراتهم الحربية
تزرع كل متر ناراً وسموماً ودماراً.. وحلّقت طوّافاتهم فوقها ترصد كل حركةٍ فيها
فتضربها وتمنعها من أن تثبت وتستقر خوفاً من أن تكون ممن يطلق الصواريخ على الجليل...
ولكن (نور) وصل، وبتؤدة وروية، وبدون أن ترتجف أصابعه وكأنه كان يعمل داخل بيته في
أحلى حالات السلم، نقل الصواريخ وأخذ يوصل دورتها الكهربائية بينما كان يساعده رفيق
له في نقلها...
كانت أصداء الانفجارات حوله صوتاً واحداً متصلاً لا يكاد يتخلله صمت. كل لحظة كانت
تعني موتاً.. شهادةً.
وتصفر القذيفة نازلة.. سمعها بأذنه، إلا أن عينه لم تطرف حتى وأنامله لم ترتجف،
بينما كانت صاحبه يأخذ الأرض.. وانفجرت..
لم تصبني هذه القذيفة أيضاً.. لعل التي بعدها..
وتسقط التي بعدها والتي
بعدها بتوالٍ لم ينفع في التأثير على أصابع (نور) الذي ابتسم وقد فرغ من التوجيه..
ـ هذه الصواريخ سوف تصل إلى زرعيت إن شاء الله.. لا حل لهذه الغدّة السرطانية "إسرائيل"
إلا بهذه المضادات الإسلامية.. بقيت عملية الإطلاق فقط..
وفجأة صمّ الآذان صوت مزّق صدره ووجهه وبطنه، واملأ المكان بغبار أسود خبيث واختلطت
في عيون (نور) الألوان..
لقد وقعت قذيفة قربه.. وأحس بوخز عميق.. ولكنه لم يزل واعياً لنفسه لا يهم فإعداد
الصواريخ قد تم وها هي جاهزة للإطلاق..
ولكن سيلاً من القذائف انهمر عليه في تلك اللحظات.. فتنحى جانباً يلتقط أنفاسه
ويبتعد قليلاً عن الراجمة التي لعلها انكشفت للعدو.. ويضغط على جرحه النازف، ولكن
عقله كان متعلقاً بالراجمة.. إنها جاهزة.. ويجب أن يطلق الصواريخ ولكن هلا يستطيع..
كان (صاحبه) يساعده على
نقل القذائف من الشاحنة وإعدادها ويقف غير بعيدٍ عنه يراقبه وفجأة لمح طوّافتين (هليكوبتر)
وقد ظهرتا في الأفق فوق الجبل وقبل أن يقوم بتنبيهه كانت الطائرة قد رمتهم بصاروخ
موجّه أصاب الشاحنة فاختلط الغبار بالألوان ولم يعد يستطيع رؤية ما حدث لـ/نورُّ،
بل سارع إلى حضن جبل قريب مبتعداً عن الراجمة، هدف الطوافة، ولكن سيلاً من القذائف
والصواريخ انهمر على هذا المربّع الصغير.. فارتبكت المجموعة وانفرط عقدها وأخذت
الطوافتان تحكمان السيطرة على الوادي الضيق، واحدة وقفت تراقب وتطلق النار وأخذت
الأخرى تطوف مفتشة عن الرجال.
كان (صاحبه) من مكمنه في سفح الجبل يراقب حركة الطوفان في نفس الوقت الذي أخذ بنظره
يبحث عن الرجال بين الأشجار والصخور.. ومضت قرابة نصف ساعة اختفى خلالها صوت
الهليكوبتر فخرج من ملجئه وسار رويداً رويداً وهو يراقب الأفق فوق الجبال.. ثم سارع
الخطو وعاد يعبر الوادي إلى حيث يحتمل أن الرجال قد التجأوا.. فوصل إلى عبارةٍ تحت
الطريق احتمل وجود الرجال فيها وهنا لاحظ حفرةً كبيرةً بقربها جرّاء سقوط صاروخ،
ووجد جهازاً لاسلكياً قرب الحفرة وعلبة دخان ملطخة بالدم.
ـ لا بد أن أحدهم قد أصيب
ولكن أين هم؟ وخرج من العبَّارة ووقف يتأمل المنطقة.. لا أحد.. ثم صريخ يناديهم...
ولا من مجيب ثم ألقى نظرة على الشاحنة وعلى راجمة الصواريخ التي بقربها.. لقد
جهَّزها (نور).. والظاهر أنه استشهد أو أصيب قبل أن يطلق الصواريخ..
كان يقف بعيداً عن الراجمة.. ولم يكن قد خطر بباله بعد، أن يقوم هو نفسه بعملية
الإطلاق.. فقد كان همه منحصراً في معرفة الذي جرى للرجال ومن هو الذي أصيب منهم..
ولعل الذي أصيب هو (نور) فإن الصواريخ لم تطلق.. ولو لم يصب لبقي وأطلقها..
وفيما هو يبحث بنظره في المنطقة... وفي اللحظة التي غادر فيها العبَّارة... سمع صوت
الهليكوبتر، وسرعان ما ظهرت الطوّافتان فوق رأسه وأخذتا تطلقان القذائف والصواريخ
باتجاه الراجمة والشاحنة المصابة ثانية.. وهنا حصلت المفاجأة..
من وسط الدخان والغبار
الذي أثارته القذائف انطلق الصاروخ من الراجمة.. فوجم صاحبنا.. مَنْ يطلقه؟ وانطلق
الثاني بعد قليل.. وأمام أعين اليهود في الطوافتين اللتين أخذتا ترميان المنطقة حول
الراجمة بسيل من الرمايات والصواريخ.. وانطلق الثالث والرابع.. ولم تنفع كل
الرمايات في منع استمرار الإطلاق.. وهكذا حتى الصاروخ الثاني عشر...
وقف مذهولاً يراقب الصواريخ التي انطلقت تزمجر كالرعد ولا أحد هنا غيره بتاتاً..
والإطلاق يحتاج إلى عنايةٍ وتركيز.
وبينما كانت الطوَّافتان تجوبان سماء الوادي بهستيريا وتدمران كلَّ ما يتحرك كان هو
رابضاً في مكمنه..
لقد أنجزوا المهمة، وقد يكون نور جريحاً.. ولكن.. مَنْ أطلقها؟
﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾.