تحقيق: فاطمة الجوهري غندورة
دخل إلى المنزل حاملاً بيده لوحة مغلّفة قائلاً لها: عزيزتي هذه الهدية لك. تفاجأت
وقالت: ما المناسبة؟ أجابها: لقد لاحظت بعد انتقالنا منذ عدّة أشهر إلى هذا المنزل
الكبير أنّه صار ملتقى الأقارب والصديقات والزائرات من الجيران بشكل دائم، فأحببت
أن تضعي هذه الآية الكريمة في صدر الغرفة وقد خُطّ عليها قوله تعالى: ﴿وَلَا
تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ
رَّحِيمٌ﴾ (الحجرات: 12) لعلّها تكون تذكرة.
كما للقتل والسرقة آثار جسدية ومعنوية تُزعزع أمن المجتمع كذلك فإنّ للغيبة
والنميمة، والكذب، والهمْز، واللّمْز آثاراً أقوى وأشدّ على المتحدّث وعلى المستمع
في آن واحد. وقد نكون أحياناً ملتفتين إلى ذلك، ولكنّها في أغلب الأحيان تكون في
طيّات الحديث وغالباً في أوقات التسلية والراحة؛ لذا، ما علينا فعله باختصار شديد
هو مراقبة وتهذيب أنفسنا التي قد تصبح وسط هذا العالم الماديّ كتلة من أمراض خبيثة
تلتهم الصالح والطالح.
* أتوب.. فأعود..
آفة الغيبة هي أولى هذه الآفات على حدّ وصف الشيخ محمد الحمود، وهي من أخسّ السجايا
وألأَم الصفات التي تشعل نار العداوة والبغضاء، وتُشيع الفحشاء، وتكشف العيوب
الخفيّة. هي باختصار كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ذِكرك أخاك
بما يكره"(1). أما إذا كان الحديث يدور عن عيوب غير موجودة، فهذا بهتان ووزره
أعظم من وزر الغيبة.
ولمقاربة الواقع، كان لنا مقابلات مع أفراد من المجتمع، منهم من يبرّر سبب هذه
الآفة عنده، ومنهم من يُظهر عجزه عن منع نفسه من الخوض فيها... إلخ.
* أستمتع بالحديث عن الناس
تقول مريم (ثلاثون عاماً): "من المؤسف أنّني أصبحتُ ضحيّة هذه الآفة التي تُعرف
بالغيبة، واكتشفتُ أنني أتلذّذ بتناول الحديث عن بعض من يؤذيني من الناس، وأجد في
ذلك ماءً يطفئ نار الحقد الذي زرعوه في روحي. أنا أعلم أنّ ذلك غيبة وأنّها من أعظم
الرذائل، لكنّني اعتدت على ذلك وأبرّر لنفسي أنّني أخفّف وجعي وحزني بالحديث عمّا
فعله الآخرون!".
وتلقي بتول (البالغة من العمر 35 عاماً) اللوم على مجتمعها، فهي تحاول مراراً
وتكراراً ترك المجالس، سواء جلسات الرفاق أو الأقارب، خاصةً إذا شعرت أنّها قد
تغتاب معهم، لكنّها لا تلبث أن تجد نفسها تشارك -لا إرادياً- في الحديث، ولو بالضحك
أو بالنقد. تقول: "إنّها أصبحت عادة عندي ويصعب عليّ التخلّص منها، حتى لو أردت
ذلك.. فالمجتمع مريض بهذه الآفة، الصغير والكبير".
* بين الغيبة والنقد البنّاء
يحدّثنا عباس (البالغ من العمر أربعين عاماً) أنّ الغيبة أشبه بضريبة لا تخلو منها
مجالسنا الاجتماعيّة، وهي منتشرة بشكل واسع تحت عناوين شتّى، وأحياناً يكون الشخص
مخيّراً بين أمرين: إمّا أن يكون هو الضحيّة فيَغتاب، أو أن يُشارك ولو بالابتسامة
الموافقة لما يُقال، فيكون من زمرة المغتابين. ويضيف عبّاس: "نعم، حاولت أن أصدّ
وأمنع أحاديث الغيبة فقوبلتُ بالاستهزاء، وحاولتُ أن أترك هذه المجالس، فأصبحتُ
ضحيّة الغيبة وصرت منبوذاً، وعندما حاولت الدفاع عمّن يُغتاب ويُتسلّى بالحديث عنه،
قيل لي: هذه ليست غيبة، بل انتقاد فحسب، وهي من باب المصلحة وإظهار الخطأ".
* منبوذة ووحيدة
أما زينب، (خمس وخمسون عاماً)، فتُبدي حزنها وأسفها الشديد لأنها تضطرّ أن تبتعد عن
اللقاءات الاجتماعية من جرّاء صدّها الدائم لأحاديث الغيبة، فأصبحت غير مرغوب فيها،
تقول: "في المرّة الأخيرة التي حاولتُ فيها أن أدافع عن شخص كان يُذكر بسوء، في
لقاء مع الصديقات، ووجهتُ بردٍّ قاسٍ وأُرغمت على ترك المجلس وكأنني مخطئة؛ لذا،
ومخافةً من الله، اعتدت الجلوسَ وحدي".
هي حالات بسيطة مقارنةً بما يحصل ويدور في منازلنا ومدارسنا، وما تتناقله هواتفنا،
حاولنا استعراضها علّنا نصل إلى أسبابها وخلفيّاتها لنجد حلولاً عملية تقينا نار
الفتنة والتفكّك؛ لذلك، كان لنا لقاء مع أهل الخبرة في الطبّ النفسيّ وأهل العلم في
الإرشاد الدينيّ، راجين من المولى التوفيق لحسن المعالجة.
* الغيبة جُهد العاجز
إنّ أوّل ما تثيره هذه الحالات من تساؤلات، هي؛ هل إنّ الغيبة مرضٌ عُضال؟ بمعنى
آخر: هل الغيبة التي ظهرت عند مريم مثلاً مبرّرة كونها نتيجه ظروف أو ضغوط؟
استشرنا في ذلك الحاجة فاطمة قازان (معالجة نفسيّة) التي بدأت حديثها بقول لأمير
المؤمنين عليه السلام الذي يصف الغيبة بأنّها "جهد العاجز"، فالغيبة مرض نفسيّ سببه
عجز عند الشخص، يلجأ إليها كسلاح وهميّ من أجل تحطيم الآخرين؛ لذلك، وصفها الله
بأنْتَن الصفات حيث شبّهها بلحم الجيفة.
وتضيف الحاجّة فاطمة: "أنّ الغيبة سلاح ضعيف وهميّ يكشف عن خلل في البناء النفسيّ
والتربويّ لحالة مريم وأمثالها، فلا بدّ من أنْ نحصّن أنفسنا لكي لا نسقط في
المعصية. نعم، الأمر ليس بسيطاً، لكن يجب أن نقتدي بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
وأئمتنا عليهم الصلاة والسلام".
* اتّباع الآخرين قد يصل بنا إلى الهلاك
إنّ إحدى النقاط التي تذكرها بعض هذه الحالات هي أن تكون الغيبة عادة نكتسبها ممّن
حولنا، ثم نلقي باللوم على مجتمعنا في ذلك.
بيّنت الحاجة إيمان الخنسا (معالجة نفسيّة وأستاذة في الحوزة العلميّة) أنّ الأمراض
النفسيّة كما الأمراض العضويّة أو الجسدية تنتقل بالعدوى من شخص إلى آخر إذا ما
توفّرت الظروف الملائمة، مثل مجالس التسلية أو الزيارات... إلخ.
ولكن ذلك لا يبرّر الوقوع بها، فقد خلق الله العقل ليميّز به الخير من الشرّ،
وتتساءل الحاجة قازان: "لماذا دائماً نُحمّل الناس المسؤوليّة وأنّهم يأخذوننا في
هذا الاتّجاه؟ ولماذا لا تكون المبادرة بأيدينا نحن ونأخذهم إلى ما فيه طاعة
الله؟".
* نقد أم استغابة؟!
تثير هذه الحالات نقطة جوهرية أيضاً، فمن يغتاب يردّد: "نحن نقول له ذلك؛ لذا، هي
ليست غيبة، بل انتقاد".
وهنا تبيّن الحاجّة إيمان الخنسا أنّ النقد الموضوعيّ هو الذي لا تدخل فيه "الأنا"،
بمعنى أنه يُقصد به معالجة الخطأ ليتمّ تعديله. وإذا كان المقصود به التوجيه
والإرشاد للآخر فلا يكون أمام الناس، كما ورد عن الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ
عليه السلام: "مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرّاً فَقَدْ زَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ
عَلَانِيَةً فَقَدْ شَانَهُ".
وفي لقاء مع الشيخ محمد الحمود ميّز لنا الفرق بين النقد والانتقاد، فالنقد يحمل
الطابع الإيجابيّ في سبيل الإصلاح والارتقاء، أمّا الانتقاد فيحمل طابعاً سلبيّاً
وذكر عيوب الناس بشكل عشوائيّ. وقد وجد به بعضهم منفذاً للتطاول على الآخرين بداعي
النقد البنّاء تارةً والإصلاح والتغيير تارة أخرى.
تضيف الحاجّة فاطمة قازان، مؤكّدة على مبدأ احترام الإسلام للحياة الخاصّة، أنّ
عبارة: "نحن نقول ذلك له" هي أكثر العبارات قسوة بحقّ الشخص الغائب، وتطرح سؤالاً
على ذلك الشخص المتطفّل "الحشريّ": "يا من تراقب الآخرين، مَن أوكل إليك وسمح لك أن
تتعدّى على حصن أخيك وحياته الخاصّة، سواء كان غائباً أو حاضراً؟ ومن أعطاك الحقّ
في أن تذكر نقائصه؟ هذا إذا كانت بالفعل من النقائص، فمن الممكن أن يكون النقص فيك
أنت، لا في أخيك".
* عين الرحمة
إنّ الغيبة عملة، وجهها الأول فضيحة في الدنيا، ووجهها الآخر فضيحة في الآخرة. ولكي
نبتعد عن الكلام النظريّ حاولنا أن نقف على حلول ربّما تقينا هذه الفضائح. ويبيّن
الشيخ محمد الحمود أنّه على المغتاب أن يسعى إلى علاج البواعث الداخليّة التي تكمن
في أعماق روحه والتي تشجّعه على هذا الذنب القبيح، والتي تَنْتُج غالباً عن حسد أو
حقد أو عداوة أو استعلاء أو أنانيّة.
ولا بدّ للإنسان من أن يتفكّر في العواقب السيّئة للغيبة وما ينتج عنها من نتائج
تعود عليه بالهلاك في الدنيا والآخرة.
* خطوات عمليّة
ترى الحاجة فاطمة قازان ضرورة القيام بخطوات عملية لنبتعد عن الغيبة، منها:
1- أن نحترم أوقاتنا فلا نضيّعها بالحديث عن الآخرين في أوقات الفراغ، ونتقاذفهم
بألسنتنا. ويجب أن نحترم حياة الآخرين فلا ننتهكها.
2- أن لا أحشُر نفسي في أمور الآخرين وأراقب عيوبي، لا مراقبة من هم حولي.
3- أن أترك مجالس الغيبة وأكون ليّناً في إيصال فكرة أنّ هذا الكلام فيه غيبة، وأنّ
الغيبة حرام، وأن لا أكون مطيعاً في الإثم، فأحاول أن أدافع عن المستغاب، وأُبيّن
صفاته الحسنة وأقتدي بقول من قال: "احمل أخاك المؤمن على سبعين محملاً حسناً".
4- أن ننظر بعين الرحمة إلى الآخرين، فالكمال هو للخالق فحسب. ولو كنا نستعيض عن
استغابتهم بذكر محاسنهم، لكانت إشاعة الفضائل والأفعال الحميدة أسرع وقعاً
وانتشاراً في مجتمعاتنا.
5- أن نتعرّف على الفضائل ونتأمّل بسيَر الأئمة عليهم السلام والصالحين لنقتدي بهم.
6- أن لا نسمح للآخرين بجرّنا نحو الرذائل والمعاصي؛ لأنّ قيادة الآخرين نحو
المعاصي تأخذنا إلى الضياع.
الكلمة الطيبة صدقة، ولنجعل أشفار عيوننا خيمةً تظلّل وتستر عيوب المؤمنين، ولنشع
الفضائل ونقتدي بأهل المكارم ليرتقي مجتمعنا ونفوز في الدنيا والآخرة.
1.الوافي، الكاشاني، ج26، ص198.