الشيخ معين دقيق
يشتهر الحديث المتواتر: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثِّقْلَيْنِ..." عن النبيّ
الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه من الأدلّة العامّة على الإمامة. عند التدقيق،
نجد الحديث نفسه، لا يتمّ معناه إلّا بالإيمان بعقيدة المهدويّة. كيف؟ لنبحث في
دلالته.
* شهرة حديث الثقلين
بلغ هذا الحديث الشريف من الشهرة ما يُغنينا عن ذكر أسانيده والتنقيب عن مصادره؛
فقد رواه الفريقان، واعترفت به الفرقتان، وعَرَفه الخاصّ والعام، بل حفظه الصغير
والكبير، فهو فاكهة الأندية، وفي مذاق الأفواه حتّى كاد أن يصل إلى حدّ المسلّمات.
وألفاظ مَتنه متعدّدة، مِمَّا يدلُّ على أَنَّه تكرّر عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم في مواطن وأوقاتٍ متعدّدة، كحجّة الوداع، ويوم عرفة عندما اجتمع الناس،
ويوم الغدير في خطبته، ومرض موته عند وصاياه لأمّته.
* نَصّ الحديث ومواقف العلماء
ومن أشهر متون هذا الحديث: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثِّقَلَيْنِ مَا إِنْ
تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ الله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي،
وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْض"(1).
ذكر هذا المضمون جمعٌ كثيرٌ، منهم: أحمد بن حنبل في مسنده بأسانيد متعدّدة،
والتّرمذي في سُننه، والنيسابوري في المستدرك على الصحيحين، وذكر الأخير بعد إيراده
للحديث: أنَّه صحيحٌ على شرط الشيخين: البخاري ومسلم.
وقال السيّد عبد الحسين شرف الدين قدس سره في مراجعاته: "والصحاح الحاكمة بوجوب
التمسك بالثقلين متواترة، وطرقها عن بضع وعشرين صحابياً متظافرة، وقد صدح بها رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواقف له شتّى: تارة يوم غدير خمّ، وتارة يوم
عَرَفة في حجة الوداع، وتارة بعد انصرافه من الطائف، ومرّة على منبره في المدينة،
وأخرى في حجرته المباركة في مرضه، والحجرة غاصّة بأصحابه"(2).
* لم ينكر الحديث إلّا واحد
قال ابن تيمية في مقام تضعيفه لحديث الثقلين ما لفظه: "سُئل عنه أحمد بن حنبل
فضعّفه، وضعّفه غير واحدٍ من أهل العلم، وقالوا: لا يصحُّ"(3).
والمتُتبّع لمنهج ابن تيمية يجد أَنَّه يُطلق الدعاوى والنسب إلى أهل العلم من دون
توثيقٍ لها بذكر مصدر. وهنا لم يبيّن لنا أين ذكَر أحمد بن حنبل هذا الكلام، ومَن
هم أهل العلم الَّذِين قالوا لا يصحّ، فكيف نعلم صدقه من كذبه؟
وقد أشرتُ آنفاً إلى أَنَّ أحمد بن حنبل ذكره في مسنده عن عدّةٍ من الصحابة منهم
زيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدريّ، وذكر الهيثميّ في مجمع الزوائد أَنَّ
حديث الثقلين رواه أحمد وإسناده جيّد(4). كما وذكر الهيثميّ أيضاً أَنَّ الطبرانيّ
رواه ورجاله ثقات، متطابقاً مع ما رواه أحمد بن حنبل من ناحية رجال السند وراوة
الحديث(5).
كما إنَّه لو صدّقنا ابن تيمية في دعوى تضعيف أحمد بن حنبل لحديث الثقلين، لَما
ضرّتنا هذه الدعوى؛ لما عرفت من تواتر الحديث، وبلوغه حدّاً نجزم بصدوره عن النبيّ
صلى الله عليه وآله وسلم. وعندما يُجزم بصدق حديثٍ لا يؤثّر ضعف بعض رواته. وذلك
كما لو جاءنا مئة شخصٍ وأخبرونا أنّ السماء في الخارج تمطر، فنحن سوف نجزم بتحقّق
المطر خارجاً، وإنْ كان بعض من أخبر بهذا الخبر من الضعفاء.
* بعضُ دلالات الحديث
للحديث دلالاتٌ متعددة، بمجموعها تفيد أَنَّه لا يمكن أنْ يكون له معنى صحيح إِلَّا
بالإيمان بفكرة المهدويّة كما يعتقدها أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام. ونقتصر
في هذا المقال المختصر على ذكر دلالتين:
الأُولى: لا يخلو زمن من العترة الطاهرة
دلالته واضحة على عدم خلوّ الزمان من العترة الطاهرة؛ لأنَّه لو حصل ذلك للَزم
افتراق الكتاب عن العترة، وهذا مخالفٌ لنصِّ الحديث. فالحديث يدلّ على أَنَّه متى
ما وُجد القرآن لا بدّ من وجود ممثّل للعترة الطاهرة إلى جانبه؛ ليكون مصداقاً
للثقل الأصغر الَّذِي لا يفترق عن الثقل الأكبر.
وليس المقصود من عدم افتراق الكتاب عن العترة، مجرّد بقاء نسل النبيّ الأعظم صلى
الله عليه وآله وسلم من ذُرِّيّة ابنته فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين عليها
السلام، مهما كان هذا النَّسل، بل لا بدّ لهذا النسل الباقي من أنْ يكون متأهّلاً
لأنْ يَتمسّك به الناس، كما يتمسّكون بالقرآن الكريم؛ وذلك لمناسبة إطلاق الثّقل
على كلٍّ من القرآن والعترة الطاهرة من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى هذا هو صريح ما جاء في
الحديث من التعبير بـ: "تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا".
وقد تنبّه لهذه الحقيقة كثيرٌ من علماء السنّة، قال ابن حجر: "وفي أحاديث الحثّ على
التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة،
كما إنّ الكتاب العزيز كذلك؛ ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما يأتي، ويشهد لذلك
الخبر السابق: وفي كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي"(6).
الثانية: عصمة العِترة
الدلالة على عصمة العترة التي جُعلت عِدْلاً للقرآن الكريم. والوجه في استفادة هذه
الدلالة من الحديث يرجع إِلَى أمرين:
أحدهما: التعبير بنفي الضلالة عن المتمسّك بهما بشكلٍ مطلق؛ فلو كانت العترة
كسائر الناس قد تُصيب وقد تخطئ، وقد تطيع وقد تعصي، لما كان المتمسّك بها مِمَّن
تنتفي عنه الضلالة بشكلٍ مطلق.
ثانيهما: التعبير بعدم الافتراق بين القرآن والعترة؛ وحيث إِنَّ العصمة
ثابتةٌ للقرآن؛ لكونه كلام الله الَّذِي ﴿لاَ يَأْتِيهِ
الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
حَمِيدٍ﴾ (فصلت: 42)، فلا بدّ من أنْ تكون العصمة ثابتة لعِدْلِ القرآن،
وهي العترة الطاهرة؛ إذ لو لم تكن العترة معصومةً، فعندما تُخطِئ أو تُذنِبُ تكون
مفارقةً للقرآن الكريم، والحال أَنَّ الحديث صرّح بـ "إِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا
حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْض"؛ ضرورة أَنَّ عدم الافتراق المذكور في الحديث ليس
بمعنى أَنَّه كُلّما وُجِدَ المصحف في مكان كان إلى جنبه واحدٌ من العترة الطاهرة،
بل المقصود من عدم الافتراق: عدم الافتراق في الهدايةِ والحقّ ونفي الضلالة والباطل.
* علاقة الحديث بالعقيدة المهدوية
لا شكّ في أَنَّ الأُمّة الإسلامية بجميع مذاهبها تعتقد بفكرة المهدويّة، ولم يخالف
في ذلك إِلَّا الشواذّ، وهم أفرادٌ قليلون. وهذه الأمّة المعتقدة بهذه الفكرة
انقسمت إِلى مذهبين:
1- مذهبٌ يعتقدُ بأنّ المهديّ الَّذِي هو من نسل النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله
وسلم سوف يولد في آخر الزمان؛ ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
وبالتالي ينكر وجوده الفعليّ في عصرنا، ويُنكر غيبته.
2- ومذهبٌ يعتقد بأنَّه كذلك من نسل النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وله
صفاتٌ منها العصمة، وأنَّه قد وُلِدَ وغاب، وسوف يخرج في الوقت المناسب؛ ليملأ
الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.
ختاماً إذا رجعنا إلى ما استفدناه بوضوح من حديث (الثقلين) من كونه يدلُّ على بقاء
من يُتمسّك به من العترة الطاهرة إلى قيام الساعة والورود على الحوض، وأنَّ هذا
الباقي من العترة لا بدّ أنْ يكون معصوماً عن الخطأ والزلل، فإذا رجعنا إلى هذه
الدلالات لما وجدناها تنطبق إِلَّا على المذهب الثاني من المذهبَين المتقدّمَين،
الذي سلكه أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
(1) المعتبر، المحقّق الحلّي، ج1، ص23.
(2) المراجعات، السيد عبد الحسين شرف الدين، ص42.
(3) منهاج السنة، السيد علي الميلاني، ج7، ص394.
(4) مجمع الزوائد، الهيثمي، ج0، ص162.
(5) (م.ن)، ج1، ص170.
(6) الصواعق المحرقة، أحمد بن حجر الهيثمي، ج2، ص442.