الشيخ معين دقيق
تتنوّع النصوص التي تناولت فكرة المهدويّة إلى نوعين:
الأوّل: النصوص العامّة.
ونقصد من هذا النوع تلك النصوص التي لا يتمُّ معناها إلَّا بالاعتقاد بفكرة
المهدويّة؛ بحيث إنَّه لو ألغينا هذه الفكرة من القاموس العقدي الإسلاميّ؛ لما أمكن
أنْ نصل إلى فهم وإدراكٍ صحيحين لتلك النصوص، بل يتحتّم علينا حينئذٍ إمَّا إلغاؤها
بالكليّة، وإمّا حَملها على محامل وتأويلات ليست مقصودة أصلاً.
الثاني: النصوص الخاصّة.
ونقصد منها تلك الروايات التي تتحدّث عن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف
وشؤونه بشكلٍ مباشرٍ وصريح.
هذا، وقد اعتاد العلماء عند استدلالهم على فكرة المهدويّة أنْ يولوا اهتماماً
زائداً للنوع الثاني من الأحاديث، غافلين عن النوع الأوّل، مع أنَّه لا يقلّ
أهميّةً عنه، بل يمتاز عليه بأنّ النصوص العامّة -في العادة- قطعيّة الصدور؛
لكَونها متواترة، ومسلّمة عند الفريقين السنّة والشيعة، وتدلّ على خصائص لا تنسجم
إلَّا مع عقيدة أهل البيت عليهم السلام في مسألة المهدويّة. وهذا يعطي المستدلّ بها
قدرة فعّالة في مقام إثبات العقيدة المهدويّة للمعاندين والمشكّكين.
*حديث (الاثنا عشر) في تراث الفريقين
وَرَد حديث (الاثنا شعر) في كُتب الفريقين، في صحاحهم ومسانيدهم وسُننهم
ومستدركاتهم، وأولوه اهتماماً زائداً. وإليك بعض النماذج على ذلك:
- في صحيح البخاري: ورد فيه، حدَّثني محمد بن المثنى، حدّثنا غندر، حدّثنا شعبة، عن
عبد الملك، سمعت جابر بن سمرة قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
"يكون اثنا عشر أميراً"، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنَّه يقول: "كلهم من
قريش"(1).
- في صحيح مسلم: ورد هذا الحديث بألفاظٍ وأخبارٍ متعددة: "إِنَّ هذا الأمر لا ينقضي
حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة"، و"لا يزال أمر الناس ماضياً ما وَليَهم اثنا عشر
رجلاً"، و"لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة"(2).
- وقد نُقِل هذا الحديث (الاثنا عشر) أيضاً في صحيح الترمذيّ وفي سنن أبي داود،
ومسند أحمد، وصحيح ابن حبّان، ومسند أبي يعلى، والمستدرك على الصحيحين، وكنز
العمّال، وغيرها الكثير، وبألفاظٍ متنوّعة.
وأمّا في مصادر مدرسة أهل البيت عليهم السلام فقد ورد ذلك فوق حدّ الإحصاء،
وبأسانيد مختلفة، وبعض هذه الأخبار جَمعت بين العدد، وبين الأسماء، ولا حاجة إلى
نقلها بعد إمكان الاستفادة للمطلب من روايات مدرسة الخلافة على عمومها.
عدم اختصاص الحديث بجابر بن سمرة
قد يُقال اعتراضاً على هذه الأحاديث المتقدّمة عن صِحاحهم ومسانيدهم وسننهم:
إنَّها تختصّ برواية جابر بن سمرة، مع أنَّ هذه المضامين لو كانت في ملأٍ عامٍّ،
كما هو ظاهرها، لوجب أنْ يكثرُ نقلها من قِبَلِ الرواة والمحدّثين. أَلَا يكون ذلك
دليلاً على وجود مشكلة في هذه الأحاديث؟!
والجواب عن ذلك:
أوَّلاً: لا نسلّم اختصاص هذا الحديث بجابر بن سمرة، بل رواه غيره أيضاً،
منهم: عبد الله بن مسعود وأنس، من دون المرور بجابر، وأكتفي بنقل رواية واحدة:
- حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُود بَعْدَ
الْمَغْرِبِ وَهُوَ يُقرئنا الْقُرْآنَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ هَلْ سَأَلْتُمْ رَسُولَ الله: كَمْ يَمْلِكُ هَذِهِ الأُمَّةُ مِنْ
خَلِيفَةٍ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ قَدِمْتُ
الْعِرَاقَ قَبْلَكَ، قَالَ: نَعَم، سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم
عَنْهَا، فَقَالَ: "اثْنَا عَشَرَ نَقِيباً مِنْ نُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ".
وقد نقلها أحمد في مسنده مع اختلاف يسير (اثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل)،
والطبراني في المعجم الكبير، والحاكم في المستدرك، وأبي يعلى في مسنده.
ثانياً: إنَّ خَفاء أخبار الفضائل ليس بالأمر العجيب في زمن اشترى فيه بنو
أميّة الذّمم، وأذاقوا من يرويها الويْلات. واعتبر بما رواه المدائني -الذي قال عنه
يحيى بن معين: إِنَّه ثقةٌ ثقةٌ ثقةٌ(3). وقد مات المدائنيّ سنة (224 هـ) عن ثلاث
وتسعين سنة- بنقل ابن أبي الحديد الشَّافعي المعتزليّ من قوله: "وروى أبو الحسن علي
بن مُحَمَّد بن أبي سيف المدائنيّ في كتاب الأحداث، قال: كتب معاوية نسخـةً واحدةً
إِلى عمّاله بعد عام الجماعة: أنْ بَرَأت الذمَّة مِمَّن روى شيئاً من فضل أبي تراب
وأهل بيته، فقامت الخطباء في كُلِّ كورةٍ، وعلى كُلِّ منبرٍ، يلعَنون علياً،
ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته؛ وكان أشدّ النَّاس بلاءً حينئذٍ أهل الكوفة؛
لكثرة مَنْ بها من شيعة عليٍّ عليه السلام، فاستعمل عليهم زياد ابن سُميَّة، وضَمَّ
إليه البصرة، فكان يتتبّع الشِّيعة وهو بهم عارفٌ؛ لأنَّه كان منهم أيّام عليٍّ
عليه السلام، فقتلهم تحت كُلِّ حجرٍ ومدرٍ، وأخافهم، وقطّع الأيدي والأرجل، وسَمَل
العيون، وصَلَبهمِ على جذوع النَّخل، وطَرَدهم، وشَرّدهم عن العراق، فلم يبقَ بها
معروفٌ منهم. وكتَبَ معاوية إِلى عمّاله في جميع الآفاق: ألَّا يُجيزوا لأحدٍ من
شيعة عليٍّ وأهل بيته شهادة"(4).
وفي مقابل ذلك كَتب إِلى عمّاله في شأن من كتب في غير عليٍّ عليه السلام وشيعته
المنافرين له بقوله: "... فادنوا مجالسهم، وقرّبوهم، وأكرموهم، واكتبوا لي بكُلِّ
ما يروي كُلّ رجلٍ منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك حتّى أكثروا...؛ لما
كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكِساء والحِباء والقطائع، ويفيضه في العرب
منهم والموالي؛ فكثر ذلك في كُلِّ مصر، وتنافسوا في المنازل والدُّنيا...". إلى أنْ
يقول: "فرُويتْ أخبارٌ كثيرةٌ في مناقب الصَّحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدَّ
النَّاس في رواية ما يجري هذا المجرى حتَّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلى
معلّمي الكتاتيب؛ فعلَّموا صبيانهم وغِلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتَّى رَوَوه
وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتّى علّموه بناتِهم ونساءهم وخدَمهم وحشَمهم،
فلبثوا بذلك ما شاء الله"(5).
ورواية ابن مسعود المتقدّمة تشهَد بما ذكرته أيضاً؛ حيث بيّن أَنَّه لم يسأله عن
هذا الموضوع السياسيّ أحدٌ منذ قَدِمَ العراق؛ وليس ذلك إِلَّا خوفاً.
* دلالة أحاديث (الاثنا عشر) على فكرة المهدويّة
يمكن لنا من خلال الخصائص المذكورة في هذه الروايات أنْ نُثبتَ فكرة المهدوية بحسب
عقيدة مدرسة أهل البيت عليهم السلام وبكلّ سهولةٍ؛ حيث إنَّها تدلّ على الخصائص
التالية:
1- أَنَّهم محصورون بعددٍ معيّنٍ، وهو الاثنا عشر.
2- أَنَّهم جميعهم من قريش، بل في بعض الأحاديث، خصوصاً الواردة من طرقنا، تحديدٌ
أدقّ، وأنّهم من بني هاشم.
3- أَنَّ عزّة الإسلام متوقّفة على بقائهم.
4- أَنَّ خلافتهم مستمرّة من بعد وفاة النبيّصلى الله عليه وآله وسلم وإلى يوم
القيامة.
5- أَنَّ اختياره للتنظير بنقباء بني إسرائيل مع أن النظير للعدد متعدّد، تنبيه على
أَنَّ خلافتهم ليست بانتخابٍ من الناس، بل بتعيينٍ من الله، فقد قال الله تعالى عن
النقباء:
﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ
نَقِيباً﴾(المائدة: 12). وقد اعترف كثيرٌ من العلماء بانطباق
الحديث على المهديّ الموعود الذي يظهر في آخر الزّمان ويواطئ اسمه اسم رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير الآية المشار إليها.
النتيجة: إنَّ هذه الخصائص لا تنطبق إِلَّا على نظرية مذهب أهل البيتعليهم
السلام في الإمامة وفكرة المهدويّة؛ فإنّ انحصار العدد، واستمراره إلى يوم القيامة،
يعطيان بوضوحٍ أنَّ واحداً من هؤلاء لا بدّ من أنْ يطول عمره بشكلٍ غير متعارف،
وإلاّ لما صحّ استمرارهم إِلَى يوم القيامة، ابتداءً من رحيل النبيّ الأعظم صلى
الله عليه وآله وسلم.
(1) صحيح البخاري، ج4، ص175.
(2) صحيح مسلم، ج2، ص191.
(3) قاموس الرجال، التستري، ج12، ص73.
(4) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج11، ص44.
(5) (م.ن).