من الأشياء التي يليق بالإنسان أن يعدّها من مفاخره، الخدمة في موقع إمامة
المساجد. وفي هذا المجال سأتعرّض لمسائل عدّة.
* المسألة الأولى: المسجد ابتكار الإسلام
المسجد، هذا الابتكار الذي أبدعه الإسلام منذ ولادته وجعله محلاً لتجمّع الناس حول
محور الذكر والدعاء والتوجّه إلى الله تعالى. إنّ اجتماعات الناس لها تأثيراتها
بشكلٍ طبيعيّ. حينما يلتقون ويجتمعون ويسمعون ويتكلّمون، يتّخذون القرارات ويقومون
بتواصل فكريّ مشترك، يتبادلون المعلومات والأفكار. يحصل هذا مثلاً في النوادي
الأرستقراطية أو في المقاهي، كما هو رائج في الغرب أو في روما القديمة، كانوا مثلاً
يلتقون في الحمّامات العامّة، بحيث يكون الذهاب إلى الحمامات مجرد ذريعة ليستمعوا
ويتكلّموا. أمّا أن يحصل هذا الاجتماع في مكان محوره "إقامة الصلاة"، فهو فرق كبير
بين النموذجين. عندما يكون اجتماع الناس حول محور "الصلاة والذكر"، فإنّه سيوجد له
معنى آخر ووجهة أخرى، سيجذب القلوب باتّجاه آخر. إنّ هذا هو ابتكار الإسلام.
* المسألة الثانية: الصلاة عمود وقربان
وإنّنا كلّنا -فرداً فرداً- نحتاج إلى النظر إلى الصلاة بشكل آخر وبُعد مختلف.
بالطبع، أنا العبد أقول هذا لأذكِّر نفسي وعموم الناس. إنّنا لا نعرف قدر الصلاة
كما يجب ويلزم. الصلاة بمعناها الحقيقيّ هي عمود الدين الذي إن لم يكن موجوداً فإنّ
السقف سيقع وسيفقد المبنى اعتباره وشكله المعماريّ. هذه هي الصلاة. والصلاة التي
يمكنها أن تحفظ هذا الهيكل هي الصلاة التي تتمتّع بخصائص ومميّزات: أن تكون
"قربان كل تقيّ"(1)، تنهى عن الفحشاء والمنكر، أن تكون صلاة مترافقة مع الذكر
﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر﴾ (العنكبوت: 45). هذا الذكر الموجود في الصلاة، ينبغي لنا
أن نقوم به وأن نروّج له أيضاً.
أعتقد أنّه من الأعمال المهمّة لأئمّة الجماعات المحترمين في المساجد، تبيين مسألة
"الصلاة" للناس، كي يعرفوا قدرها؛ فإنْ تحقّق هذا الأمر، فإنّ الصلاة سترتقي بشكل
نوعيّ. يجب الوصول إلى عمق أذكار الصلاة، ويجب أن تحفظ صلاتنا وتُصان.
* المسألة الثالثة: الغفلة والرياء
إنّ واحدة من الآفَات هي الغفلة أثناء الصلاة، وعدم التوجّه إلى مفاهيم الصلاة وإلى
المخاطَب في الصلاة؛ أي الذات الإلهيّة المقدّسة. وعلى حدّ تعبير المرحوم "الشيخ
المشكيني" أنّه إذا تمّ اختراع آلة يمكن للإنسان أن يوصلها بدماغه ويسجّل عبرها كلّ
ما يخطر في ذهنه طوال الصلاة من أوّلها إلى آخرها، ستكون النتيجة عجيبة وغريبة.
فمنذ أن ندخل في الصلاة وحتّى ننتهي، يشرد الذهن... يسافر، يحلّ مسائل شتّى تخطر
على باله... هذه الآفَات أعبّر عنها أنا العبد بآفَات "المكاريّ".
وإذا استطعنا أن نحفظ أنفسنا من هذه الآفَة وننقذ أنفسنا من آفَة أخرى هي الرياء
-الواردة في الدعاء "وأبرَأ قلبي من الرياء والسمعة والشكّ في دينك"(2)-
حينها تصبح صلاتنا صلاة عاديّة؛ وحتّى هذه المرحلة فإنّ عمق الصلاة لا يزال غير
متحقّق ولا محفوظ.
المسألة الرابعة: كيف نفهم هذه العظمة؟
عندما نقول: "سبحان ربّيَ العظيم وبحمده" كيف نفهم هذه العظَمة؟ ما هذه العظَمة
التي نعظّمها ونسبّحها ونقدّسها؟ أين معدن العظمة المقصود في هذا الدعاء: "هب لي
كمال الانقطاع إليك" حتّى يصل "إلى معدن العظمة"(3)؟ وما هو معدن العظمة؟ سبحان
ربّيَ العظيم، سبحان ربّيَ الأعلى،
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ﴾ (الحمد: 5). هل لدينا أيّ انتباه إلى هذه المعاني وهذه
المفاهيم العميقة: 1- حصْر العبودية بالله. 2- الاستعانة فقط بالله. 3- تعليم القلب
هذه المعـــارف. 4- أداء الصــــلاة بهـذه النوعيّة والجودة؟
حسناً، يجب علينا أن نتمرّن ونتدرّب لفترة حتّى نصل إلى تلك الحالات.
* أعطوا الصلاة هذا العطر
هذه الأعمال سهلة جداً في مرحلة الشباب. امنـحوا الصلاة هذه الجودة النوعيّة،
وأضيفوا عليها هذا اللون وهذا العطر. حـينها ستبعث الصلاة في باطن الإنسان رونقاً
خاصاً. وهذا الرونق يرشح ويفيض على جميع الأشخاص الذين يتابعون [الصلاة]. توجد
روايات في باب إمامة الجماعة تفيد أنّ حسنات المأمومين وأوْزارهم تقع على عاتق إمام
الجماعة. وليس المقصود بهذا، الأمور التي تُبطل الصلاة، بل هذه المفاهيم السامية.
فإنْ كانت موجودة عند الإمام فإنّها سترشح منه وتفيض على المأمومين. حينها تصبح
الصلاة أمراً محبوباً ومرغوباً فيها، ولا تعود تكليفاً يجب أن نؤدّيه كالخدمة
الإجباريّة. وهذا جوهر المسجد. وبناءً على هذا، يكتسب المسجد أهميّة كبرى، إنّه
"قاعدة" (مقرّ)؛ هو حقاً قاعدة. ليس مقرّاً للمسائل الاجتماعيّة الفلانيّة فقط، بل
لكلّ الأعمال الصالحة والحسنة. هو قاعدة لبناء النفس، لصناعة الإنسان، لإصلاح القلب
وإصلاح الدنيا ومواجهة العدو والأرضيّة اللازمة لبناء الحضارة الإسلاميّة وتقوية
مصيرها... إلخ. المسجد هو "قاعدة" لذلك كلّه.
(*) كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقائه أئمّة مساجد محافظة طهران
21/08/2016م.
1- الكافي، الكليني، ج3، ص265.
2- (م.ن)، ج2، ص286.
3- إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج2، ص687.