آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)
ذكرنا في الأعداد السابقة صفات الشيعة الحقيقيّين التي
حرص المعصوم عليه السلام على التذكير بها من خلال أحاديث عديدة عن الإمامين الباقر
والصادق عليهما السلام.
أما في هذ العدد فسوف نتعرّض للصفات التي وردت في كلام أمير المؤمنين عليه السلام
عندما أظهر "نوف بن عبد الله البكالي" رغبة في أن يسمع حول صفات الشيعة منه عليه
السلام؛ إذ طلب من الإمام عليه السلام أن يصف له شيعته. وعندما سمع الإمام عليه
السلام عبارة "الشيعة"، بكى وقال: "يا نوف، شيعتي والله الحلماء العلماء بالله
ودينه، العاملون بطاعته وأمره، المهتدون بحبّه، أنضاء عبادةٍ، أحلاسُ زهادةٍ، صُفر
الوجوه من التهجّد، عُمش العيون من البكاء"(1).
وهذه الصفات ذُكرت في روايات سائر المعصومين عليهم السلام أو في عبارات أخرى وردت
عن أمير المؤمنين عليه السلام، لكن يبدو أنّ الإمام عليه السلام قد اختار بعض هذه
الصفات بما يتناسب مع موقف المستمع، وبالتالي لم يتعرّض لذكر مجموعة أخرى من
الصفات. كان المعصوم عليه السلام يرى التذكير بالصفات المهمّة، ليتعرّف إليها
الشيعة ويبذلوا جهودهم في التحلّي بها.
* الحلم والتواضع
إنّ الأشخاص الذين يعتبرهم أمير المؤمنين عليه السلام من الشيعة الحقيقيين، هم
أفراد كأبي ذرّ، والمقداد، وعمّار، ومحمّد بن أبي بكر الذين كانوا قلّة في زمانهم،
والذين كان اعتقادهم ومرامهم لا ينسجم مع أهل زمانهم؛ ما أدّى إلى سيطرة أجواء
قاسية ضدّهم. ومن الطبيعيّ أن يترسّخ اعتقاد الأشخاص وتقوى إرادتهم إذا كانوا قلّة
في المجتمع، وإذا مارس الآخرون ضغوطاً عليهم ليتمكّنوا من متابعة المسير، خلافاً
للسائد، وليتمكّنوا من تحمّل الضغوط الواردة.
الواضح أنّ الفاقد للتحمّل لا يمكنه المقاومة مقابل معارضة وضغط أكثر الناس. الشخص
الذي يُطرد من المجتمع لاختلاف عقيدته مع الأكثرية، والذي يعيش أجواءً قاسية، يجب
أن يمتلك الكثير من الصبر والتحمّل. لذلك أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى
الخاصيّة الأولى للشيعة ألا وهي: الحلم والتواضع.
* العلماء.. المهتدون بحبّه
يقول الإمام عليه السلام متابعاً حديثه: "العلماء بالله ودينه". شيعة عليّ عليه
السلام يعرفون وظائفهم الدينية جّيداً، ويبذلون جهودهم في سبيل طاعة الله والعمل
بأوامره. وهم يتحرّكون في اتجاه المحبّة الإلهيّة، وقد زرعت قلوبهم عشقاً لله؛ فلا
مكان في قلوبهم لمحبّة الدنيا والتعلّق بها. أمّا كلام الإمام عليه السلام عن أنّ
الشيعة هم المهتدون بحبّ الله، فهذا يعني أنّ "محبّة الله" ليست شأناً موجوداً عند
كل إنسان، بل تحصل هذه المحبة في قلب الإنسان على أثر عناية الله وهدايته. "محبة
الله" هي ذاك المطلوب الذي لا يدركه كل شخص، بل يجب إدراكها والاطلاع عليها من خلال
الرياضة وبذْل الجهد في مسيرة الطاعة الإلهية. وقد استعمل الله تعالى في القرآن
الكريم عبارة
﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ (المائدة: 54)، ويقول في مكان آخر:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا
لِّلّهِ﴾ (البقرة: 165). الواضح ظهور هاتين الآيتين الشريفتين في
محبة المؤمنين لله.
* تحقُّق محبّة الله في قلوبٍ خاصّة
نحن نحبّ المعصومين عليهم السلام، ونحبّ علياً عليه السلام الذي لم يكن له نظير في
العدالة والشجاعــة، ونحـــبّ العبــاس عليه السلام صــاحب الشهامة والإيثار في
مساعدة أخيه، والذي قُطّع بدنه أجزاءً أجزاءً في سبيل إحياء دين الله تعالى،
ونعشقهما، إلا أنّنا لا نتمكّن من فهم حبّ الله بالشكل الكامل، حتى إنّنا نسأل
أنفسنا: كيف يمكن تحقيق محبة الله؟ والسبب في ذلك أنّ ذهننا عاجز عن إدراك تعالي
المقام الإلهيّ، فلا يمكننا امتلاك تصوّر صحيح عن محبة الله، مع العلم أنّ أحد
أسباب محبّتنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه المعصومين هو محبتهم
وعشقهم لله تعالى. طبعاً، لا يجب التعجّب من عدم قدرة بعض الناس على فهم محبّة الله
أو عدم محبّتهم لله. جاء في الحديث القدسي: "أوحى الله تعالى إلى موسى: حبّبني
إلى خلقي وحبّب خلقي إليّ. قال: يا ربّ كيف أفعل؟ قال: ذكّرهم آلائي ونعمائي
ليحبّوني"(2).
* يسعني قلب عبديَ المؤمن
إنّ محبّة الله لا تحصل بسهولة، بل يتطلّب الحصول عليها بذل المجهود. لقد احتلّت
مظاهر الدنيا قلوب أغلب الناس: كالمال والثروة، والمنزل، والجواهر، والنساء،
والأولاد. وقد تزيّنت هذه الزخارف الماديّة في نظرهم:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ
مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران: 14).
لا يملك كلّ قلب لياقة وظرفيّة محبّة الله، بل قلب المؤمن هو اللائق لتلقّي نور
محبّة الله. فهو على أثر العبودية الخالصة لله ومحاربة الشيطان والأهواء، يَصل إلى
أعلى المقامات الإلهيّة. في هذا الشأن يقول الله تعالى في الحديث القدسيّ: "لا
يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن"(3).
* ملازمون للزهد
"أحلاس" جمع "حلس" بمعنى لبَادة البعير، وسجّاد البيت. وبما أنّ اللبادة تُبسَط على
ظهر البعير والسجادة تُفرش في البيت فتكونان من لوازمهما الدائمة، لذلك استفاد
الإمام عليه السلام من عبارة "أحلاس زهادة" للإشارة إلى زهد الشيعة؛ أي أنّ الشيعة
ملازمون للزهد ومعتادون عليه. وبما أنّ السجاد ملازم لبيوتهم، فهذا يعني أنهم
يشتغلون بالعبادة بعيداً عن الضجيج والفتن وبعيداً عن الشهرة والموقع الاجتماعي.
هؤلاء يسعون لكسب رضى الله تعالى وإذا وجدوا رضى الله في الابتعاد عن المواقع
الاجتماعية، لزموا منازلهم ورفضوا إظهار أنفسهم.
* لم تحكمهم الأهواء
من جملة الخصائص الغريزيّة عند الإنسان إظهار الذات وإظهار الكمالات والصفات
الإيجابيّة. أمّا الشيعة الحقيقيّون الذين عدّلوا غرائزهم ولم تحكُمهم الأهواء
والوسَاوس، يعملون على أساس الوظيفة وعلى أساس رضى الله تعالى. فإذا اقتضى رضى الله
أن يكونوا مجهولين، قبلوا ذلك من صميم قلوبهم، ولا يهتمّون إذا أصبحوا مجهولين في
المجتمع، وإذا لم يعرفهم أحد، ولم يهتمّ بهم أحد.
تجب الإشارة إلى أنّ الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه
النورانيّ، هي نماذج بارزة عن الفضائل المتعالية للشيعة الحقيقيين، وهذا لا يعني أن
الجميع يجب أن يسعى لإيجادها في نفسه في أعلى مستوياتها. الهدف من تعداد هذه الصفات
أن يسعى الإنسان في سبيل طاعة الله ورضاه، وأنْ لا يتعلّق قلبه بالدنيا وباللذائذ
الدنيويّة والماديّة.
1- بحار الأنوار، المجلسي، ج65، ص177.
2- (م.ن)، ج2، ص4.
3- عوالي اللآلئ، الأحسائي، ج4، ص7.