ديما جمعة فوّاز
وقع حامد عن الصخرة الضخمة مباشرةً إلى المحيط.. ارتطم بقوّةٍ بالماء، وسرعان ما ابتلعته الأمواج الغاضبة.. غرق أكثر فأكثر في الظلام الحالك، وبدأ جسده المرهق يتخبّط بيأس سعياً نحو الهروب. لم يكن يعرف كيف يتوجّهُ وفقَد الإحساس بالمكان والزمان. والسؤال الذي سيطر على تفكيره وكاد يخنقه: هل تراه يغرق إلى القعر أو يقترب من السطح؟
وفجأة هزّت حامداً يدٌ بحنان.. هي أمّه تهمس له: "وصلنا حبيبي.. هيا..". ابتسم لها بوهن وقام بمساعدة والده. اعتاد حامد على رؤية ذاك الكابوس حتى ارتبطت فكرة النوم في ذهنه بالمحيط، فهو منذ سنوات يعاني من واقع حياته المتأزّم والذي يزداد صعوبةً يوماً بعد يوم..
لا زال يذكر حتى اليوم تلك اللحظة التي خرج فيها من الوعي نحو الضياع. كان في الرابعة عشر من عمره حين وافق على تذوّق سيجارة "ملغومة" حسبما قال رفاقه. لم يستسِغ في البداية طعمها وأشعرتْه بالدوار، ولكنّه آلَ على نفسه الاعتراف بانزعاجه كي لا يُثبت على نفسه تُهمة "الولْدنة". وبدأت رحلته مع الإدمان. لم يدرك كيف تحوّل مسار حياته نحو الحضيض. أُصيب بأوجاع مختلفة ولم يعد يتمكّن من النهوض صباحاً من السرير قبل أن يأخذ جرعة المخدرات!
كان يعدُّها في المساء، قبل النوم. فتلك الحقنة كانت تمدّه بالقدرة على النهوض، ليقع مجدداً بعد ساعاتٍ قليلة حين تنفد من دمه السموم. واستطاع بسهولة أن يحصل على حاجته المتزايدة منها بفضل المروّج في الحي. كان يعمل بمثابة بريد لذاك المروّج، يوصل طلبات الزبائن من الكوكاييــــن والمورفيـــن وغيرهمــا، ويحصـــل في آخر يومه على أجرته بدل احتياجاته اليوميّة.
من مدمن إلى مروّج، ومن طالب مدرسي إلى فارّ من عيون الناس الغاضبة. فالمدمن يعني "سارق"، ويعني "كاذب"، ويوازي في المجتمع.. المجرم. بات مجرماً في عمر السابعة عشر، جلّ همّه تلك الحقنة التي تبعث في شرايينه الموت الذي يحييه.
تعذّب كثيراً قبل أن يصل إلى هنا، إلى تلك البقعة الجبليّة الهادئة. بعد مشادّات مع والده وبعد أن حاصرته دموع أمه. لم يدرك يوماً ما يعتصر في قلب تلك الأم من حزن، حين تجده يوماً بعد يوم يذوي أمام عينيها. كمْ دافعَت عنه! وكم سَعت لإنقاذه! ولكن آن الأوان أن يساعد نفسه، خاصّة بعد ما حصل مع سميح!
سرعان ما انقطع حبل أفكاره حين اقترب منه مدير المركز مبتسماً، وبادره: " أنت حامد إذاً، كنت صديق سميح؟" لم يتمالك حامد نفسه من البكاء حين سمع باسم صديق عمره.. هزّ المدير رأسه قائلاً: "لا بأس عزيزي، لا شكّ في أنّ ما حصل معه كان له الأثر الجيّد في حياتك، ولذلك أنت اليوم هنا، ولن تخرج من المركز قبل أن تُشفى تماماً من الإدمان". تعلّقت عينا حامد به وتمْتَم: "وهل أستطيع؟"، أجابه الرجل مؤكّداً: "بالطبع! أنت شاب قويّ. أتحسب أنك جرمٌ صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر؟!" أحبّ حامد تلك العبارة، وشعر للحظات أنّه أوشك أن يعيش معانيها.
كانت حماسة حامد تتّقد سعياً للشفاء من الإدمان، خاصّة حين تعرّف إلى أقسام المركز، والرفاق الذين سيعيش معهم لأشهر قليلة قادمة. وفي الليل، حين توجّه نحو السرير، أخفى دموعه تحت اللحاف الثقيل، بينما تمتم بصوت خافت: "ليت سميحاً كان معي اليوم، ليته وافق على المجيء إلى مركز معالجة الإدمان، لَمَا كان قضى نحبه بجرعة كوكايين زائدة!". وغفا بهدوء للمرة الأولى منذ سنوات.. شاهد نفسه واقفاً عند تلك الصخرة الضخمة.. ولكنّه هذه المرة انطلق بقوة نحو الأعلى وحلّق.. لم يقع! لم يغرق! لم يتخبّط في الظلام! بل ارتفع حتّى كاد يلامس أشعّة الشمس الدافئة.