أسماء الغول فلسطين/غزة
تتساءل الكاتبة الفرنسية انعام كجه جي في أحد مقالاتها: ماذا لو اختار ابني تفجير نفسه؟ ماذا أفعل لو اختار حسم المسافة بين ازدواجية القول والفعل؟ الأمر صعب.. نعم بالنسبة إلى فرنسية تتساءل بفعل الكتابة المترف؟ لكن ماذا تقول جي، لو رأت صور محمد فرحات ومحمد حلس منفذي عملية "عتسمونا ونتساريم" ووالدتهما تودعانهما قبل ساعات من استشهادهما؟ هل هناك رقي وحرية في مجتمع يبارك أفراده قناعات أبنائه وبناته إلى النهاية إلى الاستقلال كما في فلسطين؟ وتخطت مهمة المرأة الفلسطينية حدود الأمومة الشجاعة لتغدو الشهيدة والاستشهادية في المرحلة الحالية.. مرحلة الأسئلة المصيرية الصعبة.
* الأمهات الفلسطينيات
"أم نضال" أم فريدة من نوعها باتت حديث الشارعين الفلسطيني والعربي، فقد ودعت ابنها (محمد فتحي فرحات) عضو كتائب القسام إلى الشهادة بنفس راضية تلقي إليه النصائح وهو ذاهب لتنفيذ عملية استشهادية... والتقطت معه صوراً تذكارية. أم نضال امرأة عادية من حي الشجاعية بمدينة غزة علمت حقيقة الواقع الذي تعيشه وطبيعة ما تحتاجه فلسطين، وقالت لنا "لقد شرفنا الله بالعيش في هذه الأرض المباركة أرض الرباط والمقاومة، فكيف لا نرابط ولا نقاوم، هكذا ربيت أبنائي وهكذا هم". وتضيف "أنا أحب ابني محمد كثيراً فهو قريب جداً على قلبي وعندما أتذكره أشعر بحاجة إلى البكاء ولكن اعزي نفسي بأنه ذهب عند من هم أفضل مني فأنا قدمته من أجل الله والله يستحق منا أن نقدم له كل ما هو غال ونفيس وأنا لم أكن أقدم ابني إلا نتيجةً لإيماني بالله". وأكدت أم نضال أنها كانت تشجع ولدها دائماً على حب الوطن وعلى حب الشهادة وقالت: "لقد كنت أشجعه وأقوِّي قلبه وأحكي له القصص وأزوده بالروحانيات ومواقف إيمانية حيث تشكلت لديه عزيمة عالية وكانت أمنيته الوحيدة أن يستشهد في سبيل الله".
ومن الكلمات التي قالتها أم نضال لابنها في شريط الفيديو "يا بني أنت فلذة كبدي وأغلى ما أملك في حياتي وليس من السهل على الأم أن تفرط بفلذة كبدها بسهولة إلا لشيء عظيم وليس هناك أغلى من الوطن والدين لتدافع عنه وتستشهد وها أنا أهبك اليوم لتنتقل من هذه الحياة إلى حياة أفضل في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء وأفعل ذلك لأنني أحبك وأريد لك الخير، يا بني اذهب على بركة الله واجعل دماء الأطفال محمد الدرة وإيمان حجو وغيرهم ماثلة أمام عينيك انتقم لهم ولشعبك الذبيح". وأوضحت أم نضال أنها كانت آخر من تحدث معه ابنها قبل استشهاده حيث اتصل بها من داخل المستوطنة التي اقتحمها وأخبرها أنه نجح بالدخول بعد أن قص السياج وطلب منها الدعاء له، وتقول "لقد أغلق محمد الهاتف، بعدها شعرت وكأن شيئاً قد اقتلع من جسدي تمالكت نفسي ودعوت الله أن يمكنني من رؤية جثمانه الطاهر، وبعد 18 ساعة من استشهاده عاد الجثمان واستجاب الله لدعائي وكحلت عيوني برؤيته لقد كان الجثمان سليماً ولم يحدث له أي شيء سوى بعض الطلقات في الرأس وكان وجهه يشع نوراً وظل دمه ينزف رغم مرور 18 ساعة حتى ووري الثرى".
ولم تقدم أم نضال ولدها محمد فقد قدمت قبله ابنها وسام المعتقل حالياً في أحد سجون الاحتلال، وابنها الكبير نضال المدرج في قائمة المطلوبين للاحتلال.
أما أم نبيل التي ودعت ابنها محمد حلس وسلمته لله تقول بشجاعة وعيون راضية: "نشأ ابني على تعاليم الإسلام وحب المساجد وكان مطيعاً وهادئ الطباع وقد اختار أن يكون مجاهداً في سبيل الله كما قال لي قبل خروجه بساعات".
وتضيف أم نبيل بعد أن غلبت عينيها الدموع: "لو لم يذهب ابني للاستشهاد يومها لكان توفي في فراشه، فهذا قدره وقد علمني بصبره وإيمانه كيف أباركه حتى اللحظات الأخيرة من توجهه إلى "نتساريم" يوم 11/3/2002 وبقيتُ أدعو له طوال اليوم إلى أن سمعت خبر استشهاده".
وعندما سألناها عن رأيها في قول الكاتب الأمريكي الجنسية واليهودي الأصل "توماس فريدمان" الشعب الفلسطيني يفجر نفسه لأنه لم يعد يعرف قيمة الحياة" ردت أم نبيل وهي تضحك "الغريب أن الأجانب لهم مثل يقول إما أن تعيش في حرية أو تموت وهذا بالضبط ما فعله محمد مع فارق أنه يبتغي من ذلك وجه الله وحده"، ومضت أم نبيل قائلة: "كيف يريدون منا إن نسكت ونحن نتعفن تحت الأنقاض". وأكدت أم نبيل "أن الدين الإسلامي دين سلام ثم جهاد وموت في سبيل الله".
* الاستشهاديات في توالي
ويبدو أن المرأة الفلسطينية لم تعد تضحياتها تقتصر على تقديم أبنائها قرابين للوطن بل أضحت تقدم أغلى ما تملك.. روحها في سبيل الوطن والله، فها هن: وفاء إدريس.. دارين أبو عيشة.. آيات الأخرس.. الهام الدسوقي.. عندليب طقاطقة، ست زهرات تحولن إلى قنابل بشرية يسطرن بدمائهن حب الوطن وحق الشعوب بالتحرر من العسكر، قاطعات المسافة بين العمل الارتجالي الذي لا يتعدى في أحسن أحواله طعن جنود أو مستوطنين بسكاكين المطبخ أو محاولات خطف سلاح مجندات إسرائيليات ورشق بالحجارة وبين العمل العسكري الحاسم المنظم بانضمامهن إلى كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري لحركة فتح وتنفيذ عمليات استشهادية في قلب المدن الإسرائيلية أو حتى في داخل منازلهن كما فعلت الهام دسوقي بتفجير جسدها في وجه جنود الاحتلال عندما حاولوا اجتياح منزلها في مخيم جنين فقتلت جنديان وأرعبت الآخرين. وقبلها آيات الأخرس (18 عاماً) التي فجرت نفسها أمام محل تجاري في القدس الغربية. وبعثت ثلاثة إسرائيليين إلى جهنم وأصابت 70 آخرين بجراح، إذ تقول والدتها أم سمير (50 عاماً) وهي تضع يدها على قلبها "كانت آيات خارج المنزل وقتها إذ تعودت كل جمعة أن تذهب لتتلقى دروس الثانوية كتعويض بدل الدروس التي ضاعت نتيجة الحصار، وحين سمعت خبر الاستشهادية شعرت بإحساس غريب فخرجت إلى الشارع كالمجنونة أبحث عنها، حتى ظهر اسم المنفذة على التلفاز وأخذت أبك أنا وبناتي وزوجي وسط الحارة". ومضت تحدثنا وعيناها تملأهما الدموع: "قبل خروجها قالت لي ادعي لي يا أمي اليوم مهم عندي كثير!".
دارين أبو عيشة (23 عاماً) الاستشهادية الثانية التي احتارت بعد رفض الحركة الإسلامية لمشاركتها العسكرية فوجدت ضالتها مع كتائب شهداء الأقصى حيث فجرت نفسها عند حاجز "مكاييم" فأصابت ثلاثة جنود إسرائيليين. وكانت وفاء إدريس (27 عاماً) الاستشهادية الأولى التي افتتحت عصر الاستشهاديات في الثامن والعشرين من شهر أيلول "سبتمبر" للعام الماضي، بتفجير نفسها في القدس الغربية فقتلت إسرائيلياً وأصابت آخرين. ويقول شقيقها الأكبر خليل إدريس: "كانت أختي تشاهد كل يوم عشرات الجرحى والمصابين وتعمل على نقل جثث الشهداء الذين يسقطون بنيران جنود الاحتلال، ودائماً تتحدث عن طبيعة تلك المشاهد المؤلمة وفي مرات عديدة تأتي إلى البيت والحزن يلفها وتبدو مغمومة، وهي تروي لنا قصص الجرحى والشهداء الذين فَجَّرت رؤوسهم وأجسادهم رصاصاتُ وقذائف الاحتلال وكان لكل ذلك تأثيره التراكمي داخلها لترغب في العمل الاستشهادي".
وختامها مسك.. إذ قامت الاستشهادية عندليب طقاطقة (20 عاماً) من قرية بيت فجار قضاء بيت لحم بتفجير نفسها عند محطة الحافلات في القدس الغربية يوم الجمعة الثاني عشر من نيسان مما أدى إلى مقتل ستة إسرائيليين وإصابة مائة آخرين وكانت عندليب قد قالت لأمها قبل خروجها "سيأتي خطاب لرؤيتي.. ديري بالك عليهم".
* وللتضحية بقية...
ذهبت مريم سليمان صلاح لزيارة والدها المريض في مدينة بيت لحم بعد أن انتهت من تحضير الطعام لأولادها الستة وما كادت تمشي بضعة أمتار حتى باغتها الرصاص الإسرائيلي وسرق حياتها والفرحة من بيتها ومن أولادها الستة وزوجها إلى الأبد.. ولم تكن مريم بأحسن حالاً من بقية الأمهات الفلسطينيات فقد عانت من فراق ابنها نعيم (17 عاماً) الذي يقبع في السجون الإسرائيلية منذ أشهر وأصيب ابنها الثاني نضال (15 عاماً) برصاصة إسرائيلية أثناء عودته من المدرسة... لم يصدقوا أبناء مريم الستة حتى اللحظة أن والدتهم قد استشهدت وأنهم لن يروها مرة أخرى بعد أن تعودوا على حنانها وتقبيلها لهم كل ليلة، حتى أن نضال كان يقول والصدمة واضحة في كلماته "أمي لم تمت، لم رحل ولن تتركنا لوحدنا، ستأتي لتحضر لنا الطعام وتوقظني إلى المدرسة".. أما أحمد ابنها الصغير ذو الأربعة أعوام فلا يدري ما حل به وبعائلته فهو حينما يبكي وينادي أمه يضطر أخوته أن يقولوا له: "ماما خرجت وستحضر معها الألعاب".
* لا تخافي صغيرتي...
وكان للمرأة دور رئيسي في مواساة وتسلية أبنائهاخلال الاجتياح الأخير لمدن الضفة الغربية، فتقول الطفلة بدر: "دخل علينا اليهود، واحتلوا البناية وحشرونا مع الجيران في غرفتين، وهجموا على الشباب وفتشونا وصاروا يطخوا من فوق الدار...". وأضافت (بدر سعد) ابنة السبعة أعوام التي كانت تصف لنا ما حدث عندما اقتحم الجيش الإسرائيلي البناية التي تسكن فيها مع والدها المهندس أحمد إبراهيم سعد ليستخدمها موقعاً متقدماً في حصار مقر الأمن الوقائي في رام الله: عندما دخل اليهود لم أخف ولم ابك كما قالت ماما... وتقول والدتها (أم إبراهيم): "كنا نعلم أن الاجتياح قادم فجمعت أبنائي وقلت لهم أن الجيش سيحتل المدينة وشرحت لهم معنى الاحتلال وأن هذا كله سيأتي بعده النصر وعلينا فقط أن نصبر وقلت وقلت لهم أنهم جاءوا يختبرونكم هل تصبرون أم لا وأن من يخاف لا يستحق الحياة وأن لا شيء يمكنه أن يخيفهم"، وتضيف "ومع ذلك عندما اقتحم الجنود منزلنا كنت قلقة جداً على تصرفات الأبناء وخاصة الأطفال وفوجئت من قدرتهم على الصمود حتى أبنائي الصغار كانوا يضحكون أثناء عملية تفتيش المنزل عندما جمع الجنود من في البناية وهم 14 عائلة بينهم 29 طفلاً وطفلة في غرفتين فقط من الطابق الأرضي وكان الأطفال جميعهم يلعبون ونحن نرقب بحذر تصرفاتهم خشية أن تغيظ الجنود فيطلقون عليهم النار"...
وأشارت أم إبراهيم إلى أن الحياة الطبيعية انتهت تماماً منذ الأيام الماضية التي أعاد الجيش الإسرائيلي فيها احتلال مدينتهم رام الله وفرض حظراً على التجول يمنع بموجبه السكان من مغادرة منازلهم بل وأكثر من ذلك أنه من كان ينظر من الشرفة أو النافذة تعاجله طلقة منطلقة من دبابة أو مجنزرة أو من أحد القناصة الذين اعتلوا الأبراج والبنايات العالية. ورغم كل ذلك تؤكد الطفلة بدر أنها سمعت كلام أمها جيداً وظلت تلعب كما كانت وقالت: "كنا نلعب أمام الجيش، فهو يريد أن يخيفنا ولكن إذا خفنا في منزلنا ولم نلعب، أين نعلب؟؟".
أين ستلعب بدر؟ وأين استجابات العرب لآيات الأخرس حين صرخت في كلماتها الأخيرة المسجلة "واقدساه.. واقدساه"؟ ومن سيمسح دموع أحمد بعد استشهاد أمه مريم؟ ومن سيقول لهن بعد اليوم تضحيتكما لم تذهب هدراً؟