الشيخ حسن عز الدين
عندما نريد أن نتحدث عن النصر والهزيمة يتبادر إلى الذهن مباشرة الحروب التي خاضتها الدول فيما بينها وانتصر فيها فريق على الآخر، أو تلك التي قاتلت فيها الشعوب المستعمرين للخلاص والتحرر، وفي مثل هذه الحالات نستحضر مباشرة بحسب منطق الأمور والوقائع الميدانية وخاصة عندما تكون الإمكانات المادية والعسكرية غير متكافئة بين الطرفين نحكم ببداهة العقل أن الغلبة هي للأقوى تسليحاً وتجهيزاً، وأن الهزيمة هي للطرف الأضعف مادياً وبشرياً.
فهل هذه القاعدة يمكن تعميمها دائماً؟ أم أن هناك حالات تختلف جوهرياً عن ذلك كما في لبنان حيث خاضت المقاومة الإسلامية حرباً استمرت لأكثر من (18 سنة) واستطاعت أن تحقق نصراً إلهياً عزيزاً على الكيان الصهيوني الذي يملك ترسانة عسكرية ولم تقدر عليه دولاً عربية مجهزة بكل ما يلزم للمعركة.
ما جرى في لبنان وما حققته المقاومة الإسلامية بانتصارها على العدو يطرح السؤال التالي: هل النصر والهزيمة في ساحات المعركة يرتبط بحجم الإمكانيات المادية والعسكرية، وبتعبئة القوى البشرية وحسب، أم أن هناك عوامل أخرى للنصر غير منظورة تدخل في موازين المعركة، وخاصة عندما تكون بين فريقين غير متكافئين على المستوى العسكري والبشري أو بين فريقين مختلفين في مبادئهما وعقائدهما ودوافعهما الفكرية والإيمانية؟ إن مفهومي النصر والهزيمة من المفاهيم الفكرية والثقافية ويرتبطان ارتباطاً مباشراً برؤية الإنسان وعقيدته تجاه الوجود، كما يدخلان في مفهومي الحياة والموت. فالإنسان المسلم الذي يؤمن باللَّه القدرة المطلقة والكمال المطلق وبيده ملكوت السماوات والأرض ويؤمن بأن الحياة الدنيا هي مرحلة الإعداد والتزود للحياة الآخرة الخالدة، يؤمن بأن النصر دائماً يكون حليفه طالما يؤدي تكاليفه التي أمره بها اللَّه فهو يرغب دائماً في إحدى الحسنيين: إما الشهادة أو النصر.
وفي هذا المجال استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء بموازين المعركة العسكرية المادية لم يحقق انتصاراً على يزيد، إنما بموازين التكليف الشرعي، وموازين الأهداف التي قام لأجلها، والآثار والنتائج لمعركة كربلاء فقد حقق انتصاراً خالداً على امتداد التاريخ. نعود إلى الانتصار الذي حققته المقاومة الإسلامية على العدو الصهيوني فرغم التفاوت الهائل على مستوى الإمكانيات البشرية والعسكرية تمكنت المقاومة من أن تثبت مفهوماً قرآنياً ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ َاالله﴾.
ومقولة: "الدم ينتصر على السيف". ولعل مرد ذلك إلى أمور: ارتكزت المقاومة الإسلامية في جهادها ضد العدو على أداء التكليف، وعندما انطلقت لأداء واجبها لم تنظر ولم تتطلع إلى النصر، بل كانت تنظر إلى رضا اللَّه سبحانه وتعالى، وتتطلع إلى العون والمدد الإلهيين لتحقيق النصر ووضعت نصب أعينها تحقيق شروط النصر وعملت لانجازها وتحقق لها ذلك كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، وعلى هذا الأساس كان انتصار المقاومة الإسلامية في لبنان أولاً وأخيراً هو انتصار إلهي منَّ اللَّه به على أبناء حزب اللَّه وعلى الأمة العربية والإسلامية. باعتماد المقاومة الإسلامية على القدرة المطلقة للَّه والاتكال عليه راكمت في جهادها وعملها كماً هائلاً من التضحيات والجهود التي بذلتها الأمة في سبيل إعلاء كلمة اللَّه، فقدمت الشهيد تلو الآخر، وتحملت تدمير المنازل والبنى التحتية، وقدمت آلاف الجرحى والأسرى والمعتقلين احتساباً للَّه، فكان هذا الكم الهائل من الصمود والثبات والعزيمة والإرادة والتضحيات مؤهلاً طبيعياً، للنصر الموعود من اللَّه. عملت المقاومة الإسلامية في حركتها الميدانية والسياسية على تأمين كل مستلزمات المعركة المطلوبة بالإمكانيات المتاحة لديها، فراكمت كماً هائلاً من التجربة العسكرية والميدانية وتعاملاً مرناً ومتقناً في أدائها السياسي والجماهيري، فحشدت الشعب بكل فئاته وتنويعاته ليشكل الحصن المنيع الذي يصعب اختراقه في إلهاء المقاومة عن عدوها أو منعها من تحقيق أهدافها، وكان البحر الذي تغرف منه لإعداد مقاتليها مواكبة بذلك التقنيات الحديثة التي استخدمها العدو فحققت على هذا المستوى حقيقة الإعداد وبأفضل الشروط المتاحة لديها، كما في قوله تعالى:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾. بهذه المرتكزات والمنطلقات حققت المقاومة الإسلامية أهم وأعظم انتصار على العدو الإسرائيلي الذي هزم العرب على المستوى النفسي قبل أن يهزمهم على المستوى العسكري وبهذه الشروط والعوامل تنجز المقاومة انتصاراً إلهياً وتاريخياً سيبقى مخطوطاً بالدم على صفحات تاريخ الأمة ويؤسس لسلسلة من انتصارات الأمة العربية والإسلامية على أعدائها، وهذا النصر الذي أعاد الثقة بالنفس وأعاد شخصيتها الحضارية، واستعاد لها عناصر القوة وعوامل الصمود، والثبات في المواجهة أدخل العدو الصهيوني في هزيمة نكراء أفقدته أسطورة الجندي الذي لا يقهر، وأمعنت في ضرب بنيته الاجتماعية والسياسية وجعلته يعيش حالة من الانقسام والتشرذم فضلاً عن أن هذا النصر قدم للشعب الفلسطيني خاصة وسائر الشعوب التوّاقة للتحرر النموذج الواقعي الذي يمكن اعتماده في حالة المواجهة، ومكنت الانتفاضة الفلسطينية المباركة اعتماداً على نفس العوامل والشروط مع لحظ خصوصيات الساحة الفلسطينية من صنع نصر جديد على العدو وتهزمه في أمنه ووجوده.