إن من جملة عشرات بل مئات الخصائص التي تنفرد بها الأمة الإسلامية بفضل القرآن والإسلام وأهل البيت، هي أن لهذه الأمة قدوات كبيرة ومشرقة نصب عينيها. وللقدوات أهميتها في حياة الشعوب: فإذا ما وجد لدى أمة شخصية فيها نفحة عظمة، فإن تلك الأمة لا تنفك عن تمجيد تلك الشخصية والتغني بها وتخليد اسمها، من أجل توجيه المسار العام لحركة تلك الأمة في الاتجاه المتوخى لها.
وقد لا يكون هناك في الواقع أي وجود حقيقي لمثل هذه الشخصية، وإنما تُستقى من شخصية خيالية مطروحة في القصص والأشعار والأساطير الشعبية: وهذا كله نابع من حاجة الأمة لرؤية قدوات كبار أمام عينيها من أبنائها. وهذه الظاهرة موجودة في الإسلام على نحو وافر ومنقطع النظير. ومن جملة أكابر تلك القدوات هي شخصية أبي عبد اللَّه عليه السلام إمام المسلمين وسبط الرسول، والشهيد الكبير في تاريخ الإنسانية.
إن لشخصية أبي عبد اللَّه عليه السلام أبعاداً شتَّى يستلزم كل واحد منها بياناً وتوضيحاً شاملاً. أشير ها هنا إلى أن من جملتها "الإخلاص". والإخلاص معناه الالتزام بالواجب الإلهي وعدم إدخال المصالح الذاتية والفئوية والدوافع المادية فيه. والبعد الآخر هو الثقة باللَّه. إذ أن ظواهر الأمور كانت تقضي بأن تلك الشعلة ستخفت في صحراء كربلاء. ولكن كيف يرى ذلك الفرزدق الشاعر، في حين لم يكن يراه الحسين عليه السلام؟! وكيف يراه الناصحون القادمون من الكوفة، ولا يراه الحسين بن علي الذي كان عين اللَّه؟! لقد كانت ظواهر الأمور توحي بهذا المآل. إلاَّ أن الثقة باللَّه كانت توجب عليه اليقين رغم كل هذه الظواهر بأن الغلبة ستكون لكلامه الصدق ولموقفه الحق. وجوهر القضية هو أن تتحقق نيَّة المرء وغايته. والإنسان المخلص لا تهمه ذاته فيما إذا تحققت الغاية التي يرمي إليها.
رأيت ذات مرة أحد أكابر أهل السلوك والمعرفة كتب في رسالة: إننا إذا افترضنا على سبيل المحال أن كل الأعمال التي كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله يطمح إلى تحقيقها قد تحققت، ولكن باسم شخص آخر، فهل كان ذلك يغيظ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله؟ وهل كان قد يقف منها موقفاً سلبياً ما دامت باسم شخص آخر، أو أنه يقف منها موقفاً إيجابياً بدون الالتفات إلى الاسم الذي تتحقق على يده؟ إذاً فالغاية هي المهمة، والإنسان المخلص لا يأبه كثيراً بالشخص وبالذات وبالأنا. باعتباره إنساناً مخلصاً وله ثقة باللَّه، وموقناً بأن الباري تعالى سيحقق هذا الهدف؛ لأنه تعالى قال: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ فالكثير من الجنود الغالبين يخرُّون صرعى في ميادين الجهاد، إلاَّ أنه تعالى قال في الوقت ذاته: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾.
أما البعد الثالث فهو إدراك الموقف، وعدم الوقوع في الخطأ في اتخاذه. فقد كان الإمام الحسين عليه السلام متصدياً لزمام المسؤولية والإمامة مدة عشر سنوات. مارس خلالها نشاطات أخرى ليست من طراز الفعل الاستشهادي في كربلاء. ولكن بمجرد أن سنحت له الفرصة للإتيان بعمل كبير استغلَّ تلك الفرصة ووثب وتمسَّك بها، ولم يدعها تفلت من بين يديه.
* الشهادة والعرفان
لشخصية الإمام الحسين عليه السلام الألمعية والباهرة، بعدان آخران: بُعد الجهاد والشهادة والإعصار الذي أحدثه على مدى التاريخ، وسيبقى هذا الإعصار على ما يتَّسم به من بركات مدوياً على مدى الدهر، وأنتم مطَّلعون على هذا البعد الأول. أما البعد الآخر فهو بعد معنوي وعرفاني، ويتجلَّى هذا البعد في دعاء بشكل واضح وعجيب. وقلَّما يوجد لدينا دعاء يحمل هذه اللوعة والحرقة والانسياق المنتظم في التوسُّل إلى اللَّه والابتهال إليه بالفناء فيه، إنه حقاً دعاء عظيم. ثمَّة دعاء آخر ليوم عرفة ورد في الصحيفة السجادية عن نجل هذا الإمام العظيم، كنت في وقت أقارن بين هذين الدعاءين. فكنت اقرأ أولاً دعاء الإمام الحسين، وأقرأ من بعده الدعاء الوارد في الصحيفة السجادية، وقد تبادر إلى ذهني مرات عديدة أن دعاء الإمام السجاد عليه السلام يبدو وكأنه شرح لدعاء يوم عرفة. فالأول أي دعاء الحسين عليه السلام في يوم عرفة هو المتن والثاني شرح له، وذاك أصل وهذا فرع، دعاء عرفة دعاء مذهل حقاً. وفي خطابه عليه السلام الذي ألقاه على مسامع كبار شخصيات عصره وأكابر المسلمين التابعين في منى تجدون نفس تلك النغمة والنفس الحسيني المشهود في دعاء عرفة. ويبدو أن خطابه ذلك كان في تلك السنة الأخيرة، أو ربما في سنة أخرى غيرها. لا استحضر ذلك حالياً في ذهني لكنه مسطور في كتب التاريخ والحديث.
إن نظرنا إلى واقعة عاشوراء وأحداث كربلاء، فمع أنها ساحة قتال وسيف وقتل، لكنكم ترون الحسين عليه السلام يتكلم ويتعامل بلسان الحب والرضا والعرفان مع اللَّه تعالى. آخر المعركة حيث وضع خده المبارك على تراب كربلاء اللاهبة، تراه يقول: "إلهي رضاً بقضائك وتسليماً لأمرك"، وكذا حين خروجه من مكة يقول: "من كان باذلاً فينا مهجته وموطناً على لقاء اللَّه نفسه، فليرحل معنا". كل قضية كربلاء ترون فيها وجه العرفان والتضرُّع والابتهال. اقترن خروجه ذاك بالتوسل والمناجاة وأمنية لقاء اللَّه، وبدأ بذلك الاندفاع المعنوي المشهور في دعاء عرفة، إلى أن انتهى به المطاف في اللحظة الأخيرة، إلى حفرة المنحر حيث قال: "ورضا بقضائك". معنى هذا أن واقعة عاشوراء تعدّ بحد ذاتها واقعة عرفانية. ومع أنها امتزجت بالقتال والقتل والشهادة والملحمة وملحمة عاشوراء صفحة رائعة بشكل يفوق التصور ولكن إن نظرتم إلى عمق نسيج هذه الواقعة الملحميَّة لرأيتم معالم العرفان، والمعنوية، والتضرع، وجوهرية دعاء عرفة. إذاً فهذا هو البعد الآخر في شخصية الإمام الحسين عليه السلام، وهو ما ينبغي أن يكون موضع اهتمام إلى جانب البعد الأول المتمثل بالجهاد والشهادة.
القضية التي أروم الإشارة إليها هي أنه يمكن القول قطعاً إن هذا الاندفاع المعنوي، والعرفان، والابتهال إلى اللَّه والفناء فيه، وعدم رؤية الذات أمام إرادته المقدَّسة هو الذي أضفى على واقعة كربلاء هذا الجلال والعظمة والخلود؛ أو بعبارة أخرى إن البعد الأول أي بعد الجهاد والشهادة جاء كحصيلة ونتاج للبعد الثاني، أي نفس تلك الروح العرفانية والمعنوية التي يفتقد إليها الكثير من المؤمنين ممن يجاهدون وينالون الشهادة بكل ما لها من كرامة. نفس تلك الروح العرفانية والمعنوية تجدها في شهادة أخرى نابعة من روح الإيمان، ومنبثقة من قلب يتحرق شوقاً، وصادرة عن روح متلهفة للقاء اللَّه، ومستغرقة في ذات اللَّه. هذا اللون الآخر من المجاهدة له طعم ونكهة أخرى، ويضفي أثراً آخر على التكوين.
نحن شهدنا في فترة الحرب نفحات من تلك النسمة المقدسة، ولم يكن ما سمعتموه من تأكيدات سماحة الإمام الخميني قدس سره على قراءة وصايا الشهداء وصايا صرفة لا يبغي شيئاً وراءها حسب ظني فهو نفسه كان قد قرأ تلك الوصايا، وأثَّرت في قلبه المبارك تلك الجمرات المتلظية. فرغب في أن لا يحرم الآخرين من هذه الفائدة، كما إنني والحمد للَّه كنت طوال فترة الحرب وما بعدها وحتى يومنا هذا أستأنس بقراءة هذه الوصايا؛ ولاحظت كيف أن بعضها نابعٌ من أعماق روح العرفان. فالمرحلة التي يبلغها العارف والسالك على مدى ثلاثين أو أربعين سنة يتعبد ويرتاض، ويواصل الدراسة على يد الأساتذة، ويكثر من البكاء والتضرع ويكابد المشاق لأجلها، يستطيع أن ينالها شاب في مدة عشرة أيام أو خمسة عشر يوماً أو عشرين يوماً في الجبهة. أي منذ اللحظة التي يتوجه فيها ذلك الشاب إلى الجبهة بأي دافع كان مع وجود الدافع الديني الممتزج بحماس الشباب، ثم يتحول ذلك الاندفاع لديه بالتدريج إلى عزم على التضحية والجود بكل وجوده، ويسطر ذكرياته أو وصيته. وهو من تلك اللحظات وحتى لحظة استشهاده يزداد تحمساً وشوقاً، ويصبح سيره أسرع وقربه أدنى. إلى أن تأتي الأيام الأخيرة وتحلّ الساعات واللحظات الأخيرة، فإن يكن قد بقي منه شيء حينذاك فهو كجمرة تتلظى، تلهب قلوب من يقرؤون تلك الوصايا.