نسرين إدريس
افترش ضوء البدر الطريق الخالية إلا من ظله المتهادي على أسفلتها المتعب، وتنشَّق الهواء البارد المفعم برائحة التراب الندي، فيما وقف على حافةٍ مُطلَّةٍ على العديد من قرى الجنوب الغافية على أطراف الجبال والأودية.. ما أجمله منظر، حفيف أوراق الشجر موسيقى رائعة تشعره بدفء غريب، وخلفه يشمخ جبلٍ صافي بكل عزه ووقاره، وأمامه بيوت تُطفأ أنوارها الواحد تلو الآخر وهو يبتسم، ويتذكر الأيام الخوالي، أيام كان يحمل السلاح في بطون الجبال..
يتمشى وحده وكفَّاه تغفوان في دفء جيبيه، ومن حين لآخر يتباهى إلى سمعه صوتُ بعض المفرقعات من أناسٍ لم يستطيعوا أن ينتظروا الثانية عشرة منتصف الليل ليبرزوا مظاهر فرحتهم "التي لا توصف". لطالما مشى على هذه الطريق بثيابه العسكرية ومجموعة من المجاهدين الذين استشهد بعضهم والبعض الآخر يتدفأ الآن في إحدى المغاور بذكريات الجاهد، ويداورون المواقف المضحكة والمبكية التي مرت معهم، ويتحسرون على بقائهم كما هو الآن يتحسرُ ويرسل تنهيدة مع الريح لتستقر على الشبابيك المنسية.. أين تَراه سيستشهد؟! لطالما سأل نفسه هذا السؤال، في صافي، أم في الدبشة، أو في عقماتا، أو في سجد.. لقد زار كل المواقع، وشارك في الكمائن، وقتل العديد من اليهود والعملاء، واندحرت إسرائيل عن الأراضي اللبنانية، وهو لم يزل على قيد الحياة... وها هي سنة جديدة تطل من خلف البحر والناس يتهيأون لاستقبالها باحتفالات الفرحة والبهجة، وهم لا يدرون عمق الحزن الذي ستتركه السنة الراحلة في قلوبهم..
على هذا الوطن الصغير الذي تُقدَّر مساحته بعشرة آلاف وأربع مئة وثلاث وخمسين كيلو متراً مربعاً، كان لقدوم السنة الجديدة مشهدان متباعدان؛ أولهما رقص ومجون في الملاهي وأناس يسكرون لتضيع عقولهم حتى يشعروا ببعض لحظات السعادة الكاذبة، وثانيهما رجال يشقون دروبهم في الليل المدلهم، يحملون على أكتافهم جُعباً ثقيلة، والبردُ القارس يلتفُ وشاحاً على أجسادهم التي لم تتعب، وسرعان ما يضيئون الدجى بقنابل ورشقات نارية في موقع من مواقع الاحتلال ولا يعودون إلا عندما يصطادون ظفراً جديداً، فيصبحون السعادة بكل ما لهذه الكلمة من معنًى... عند كل رأس سنة، كان المقاومون يشبكون الساعات الأخيرة بالساعات الأولى بتجديد الوعد للوطن بالتحرير، ودائماً هم أوفياء لوعودهم.. منذ العام 1982 حتى العام 2000 رسموا أجمل لوحات الانتصار، وغلبوا جبروت العالم في بضع سنين. من رحل منهم لا يزال قصةً على شفاه محبيه، ومن بقي، يتخذ زاويةً يستند فيها على سطور دعاء مبتلٍ بدمع الشوق للقاء الإمام الحسين عليه السلام.
هذه الليلة الأخيرة من السنة، لم يستطع أن يبقى في المركز بين رفاقه، فالذكريات سوط يلسع قلبه، فآثر المشي على هذه الطريق وحده ليحتفل مع أحبائه بقدوم سنةٍ جديدة.. سار بتؤدة نحو روضة الشهداء، وقف أمام قبورهم البيضاء المتلونة بين خيوط الليل، فوجدهم يغفون في روضة من رياض الجنة.. عبر بهدوء بين القبور، وجلس ليقرأ أسماءهم واحداً تلو الآخر؛ "ما أسعدهم، تمتم في سريرته وبكى.. أضاء مصباحاً صغيراً كان يحمله في جيبه لينير الأماكن الحالكة، وبدأ يقرأ القرآن، ولم يلتفت إلى الوقت الذي مرّ إلا وقد بدأ عامود الفجر بالصعود.. لقد مرت الساعة الثانية عشرة ولم يسمع أصوات الصحيح الفارغ القادم من المبتهجين منتصف الليل.. فعرف أن هدوء الشهداء أكثر صخباً من أي شيء...