مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

المخدّرات الرقمية: مستنقعٌ آخرُ للإدمان

تحقيق: فاطمة شعيتو حلاوي


عجيبٌ أمرُها تلك التكنولوجيا التي غزت حياتنا ملتحفة بلغة الأرقام، متسلّحة بتفوّق السرعة، ومتباهية بعنصر المفاجأة. ليس العجبُ في تغييراتٍ مألوفة ومتوقّعة أحدثتْها التقنيّة الحديثة في بُنية الحياة المعاصرة، بل في "قَوْلبةٍ" غريبة جعلت بعض الظواهر الاجتماعية المنحرفة أكثرَ سوءاً وانحرافاً!


مع انطلاقة الألفيّة الثالثة، انتزعتِ الحداثة من آفة المخدرات وصفَها التقليدي الشائع، ووضعتها في خانة الوصفِ "الرقميّ". هكذا أصبحت ظاهرة "المخدّرات الرقمية" محطّ نقاشٍ علني في السنواتِ الأخيرة، وتموضعت تداعياتها في دائرة الضوء، عالمياً وعربياً. فما طبيعة هذه المخدرات وحقيقتها؟ أين تكمن خطورتها؟ أيّ آثارٍ تترتب على إدمانها؟ وهل من سبُل ناجعة لمكافحتها؟

*تموّجات تخدعُ الدماغ
عام 1893م، اكتشف عالم الفيزياء الألماني "Heinrich Dove" أنّه عندما يتمّ تسليط تردُّديْن متباينيْن على أذني المستمع، فإنّه سوف يدرك صوت نبض سريع غير مألوف. هذه الظاهرة الناجمة عن خداعٍ سمعي سُمّيت آنذاك بـ"binaural beats"؛ أي "النقر بالأذنين".

على غرار هذه الظاهرة، تمّ استحداث ملفّات صوتيّة ذات تردّدات مدروسة من شأنها خداع الدماغ وجعله غير مستقرّ كهربائياً، بهدف خلق إحساسٍ ما لدى المستمع "المتعاطي" يحاكي إحساس الإدمان على نوعٍ من أنواع المخدّرات التقليديّة... إنهُ باختصار مفعولُ المخدرّات الرقميّة!

"هي ليست بموادّ كيمائيّة يتمّ إدخالها إلى الجسد عبر وسائل متعددة، إنّما تموّجات صوتيّة متفاوتة توهم متعاطيها بأمورٍ لم تحدث"، يوضح الاختصاصي والخبير في مجال الإنترنت الأستاذ "رائد داغر"، ويلفُت إلى أنّه "على خلاف المخدّرات التقليديّة، تشكّل (النسخة الرقميّة) مادة غير ملموسة واقعياً، وتكمن خطورتها في توافرها في العالم المجازيّ المتمثّل بشبكة الإنترنت، ما يجعلها متاحة بأسعارٍ مقبولة أمام الفئات العمريّة كافة، في ظل وتيرة التواصل الاجتماعيّ المتصاعدة".

ويشير الأستاذ "داغر" إلى أنّ وضع خدمات الإنترنت بتصرّف الشرائح الاجتماعية المختلفة يسهّل تناقل الملفّات الصوتيّة المخدّرة وتعاطيها، ولا سيّما لدى جيل الشباب؛ لأنّه الأكثر مواكبةً للتقدّم التكنولوجي، يُضاف إلى ذلك توسّع رقعة المساحات الافتراضيّة التي يتمّ حجزها على شبكة الإنترنت، ما يضاعف خطورة الحقبة التقنيّة الراهنة مقارنةً بسابقاتها.

*الانجرار إليها عبر "النت"
في هذا الإطار، تقول هبة (23 عاماً) إنها سمعت للمرة الأولى بمصطلح "المخدرات الرقميّة" من إحدى زميلاتها في الجامعة، ما دفعها للتعرف إلى "هذه الظاهرة الاجتماعية العصريّة"، عبر البحث عن تفاصيلها على شبكة الإنترنت.

وترى هبة أنّ خطر المخدرات الرقمية يكمن بشكل أساس في عدم التفات الأهل إلى أبنائهم خلال مرحلة الانجرار إليها عبر "النت" وتعاطيها حتّى الإدمان، فهي مادة مُتاحة وسهلة التداول، كما إنها تعزز الشعور بالراحة والانسلاخ عن الواقع، ما يستدعي الحذر الشديد والتوعية.

*من علاجٍ إلى آفة..
عام 1970م استُخدمت مقاطع صوتية "غير خبيثة" في عيادات الطب النفسيّ لغايات علاجيّة، ولا سيّما لمرضى الاكتئاب والقلق. يُستنتج ذلك من إشاراتٍ علمية وردت إلى بعض الباحثين، تقول إنّ تردداتٍ موسيقية استخدمت للعلاج النفسي عبر تغيير المزاج وشحذ الهمة وإنعاش الذاكرة وتخفيض مستوى التوتر، فضلاً عن تحسين أداء الذاكرة والذكاء العلمي.

وفي ظلّ تفاوت الآراء حول الاعتراف بهذه الملفات الصوتية الرقمية كموادّ مخدرة تؤثّر في العقل، يعتبر الطبّ النفسي المعاصر أنّ منشأ المخدرات الرقمية نفسيّ لا كيميائيّ، ولا ورقة علمية حتّى الساعة تحمل دليلاً قاطعاً على أنها تسبب الإدمان؛ إذ إنّ تأثيرها في الأفراد يبقى مجرّد إيحاء يعتمد على مدى قبولهم وتجاوبهم. إلّا أنّ بعض الدراسات الحديثة يشير إلى أن مدمني المخدرات الرقمية تبدو عليهم بوضوح مظاهر التوتّر والقلق المستمرّ والعصبيّة الشديدة، تماماً كمدمني المخدّرات العاديّة، إضافة إلى مظاهر أخرى كالعزلة والانفصال عن الواقع.

*سمّ مجّانيّ في الفضاء الإلكترونيّ
أمّا الانقطاع إلى هذا العالم الخطير، فيعزوه اختصاصيو علم الاجتماع إلى تطوّر سبُل التواصل الإلكتروني وتداولها في مختلف الأوساط، مع إمكان الدخول إلى الفضاء الافتراضي في أيّ وقتٍ ودون قيود تُفرض على عمليّات التواصل.

لقد هيّأ هذا الواقع الأرضيّة الملائمة لقيام مطوّري المخدّرات الرقمية بالترويج لمقاطع صوتيّة مجانيّة قصيرة، تُحاكي مشاعر إنسانيّة متنوّعة، على سبيل التجربة. هذه المادة التجريبية المجانية صُممت لتكون مصيدة للناشئة والشباب. فمهمتها الخبيثة هي دفع الضحية باتّجاه تجارب أخرى مدفوعة، يتراوح فيها ثمن الجرعة الواحدة بين بضعة دولارات ومئة دولار فما فوق.

وبحسب خلاصات الدراسات الحديثة، فإنّ مُدمني المخدّرات الرقميّة هم الأكثر عرضة لإدمان المخدّرات التقليديّة، بسبب ارتفاع نسبة استجابتهم لفعل التعاطي. وعليه، فإنّ الأشخاص الأكثر تواجداً على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ هم الأكثر عرضة للوقوع في شباك المخدّرات التقليديّة.

إنّ انجذاب الشباب نحو هذه "الآفة الاجتماعيّة" يعزوه عماد (28 عاماً) إلى الفراغ الذي باتَ يُملأ بالتسمّر لساعاتٍ طويلة أمام شاشات الأجهزة الإلكترونيّة المتصلة بالإنترنت. ويرى عماد أن حبّ الاستكشاف والسعي وراء كلّ ما هو غريب وجديد في عالم التقنية، هما من أسباب الانجرار نحو الإدمان المصحوب بشعورٍ من الراحة والسعادة غير الملموسة في عالم الواقع.

في الإطار نفسه، تؤكّد حوراء (19 عاماً) أن لا رقابة وتوعية كافيتين لتعريف الناس، لا سيّما المراهقين والشباب، إلى طبيعة المخدّرات الإلكترونية ومخاطرها. وترى أنّ اللجوء إلى تعاطي المخدّرات الرقمية مردّه أيضاً: جلساء السوء، الانزواء وانعدام الصراحة داخل الأسرة.

*التصدّي مسؤولية مَن؟
خلافاً للمخدّرات التقليديّة التي يُمكن الحدّ من انتشارها عبر تفعيل عمل أجهزة الأمن والرقابة المعنيّة، فإنّ الترويج للمخدرات الإلكترونيّة وبيعها يتمّان في فضاءٍ واسعٍ تصعب مراقبته. لذا، ثمة إجماعٌ على أنّ شبكة الإنترنت باتت تشكّل اليوم البيئة الحاضنة لانتشار المخدّرات الرقميّة التي يُسوّق لها إلكترونياً كما لو كانت شرعيّة لا تخالف القوانين، وسط انعدام الرقابة والترشيد الفاعليْن. فعلى من تقع مسؤولية التصدّي لهذا الآفة الاجتماعية الحديثة، في ظلّ غياب التشريعات والضوابط القانونية اللازمة؟

إنّها مهمة جسيمة تتطلّب توزيع الأعباء بين جهاتٍ عدّة. هكذا يضع قاسم (25 عاماً) الأهل والمربّين ومؤسّسات المجتمع المدنيّ في دائرة المسؤولية، مشدّداً على دورٍ توعويّ هامّ للإعلام الجديد، إذا ما أحسنّا استخدام منصّات التواصل الاجتماعيّ كمنابر تفاعليّة للتحذير من مخاطر المخدّرات الرقميّة واستئصال تداعياتها.

كما يشّكل الاعتراف بوجود المخدّرات الرقميّة في مجتمعاتنا، ولو بنسبة ضئيلة، الخطوة الأولى نحو مكافحتها، كما يقول قاسم، معتبراً أننا أمام مواجهة مشروعٍ تجاريّ كبير له خلفيات تخريبية وأهداف تتجاوز في حدودها الإدمان الفرديّ وصولاً إلى تفكيك بنية المجتمعات المتماسكة.

وعلى طريق التصدّي لهذه الظاهرة "الهجينة"، يطمئن الاختصاصيّ والخبير في مجال الإنترنت الأستاذ رائد داغر إلى أنّ نسبة تداول هذه المخـــدّرات فـي مجتماعتنــا لم تبلغ حتى الآن حدّ قرع ناقوس الخطر، لكن لا بدّ من خطواتٍ وقائية تحول دون تجذّر هذه الآفة وتفاقمها، ولعلّ التوعية تشكّل ركيزة أساسيّة في عمليّة الوقاية.

*التوعية والرقابة وسنّ القوانين

وتشكّل الرقابة الفردية في أوساط العائلات الركيزة الأولى للمواجهة وصولاً إلى المجتمع الأكبر، يضيف داغر. وهنا، لا بدّ من أن نقرن الرقابة بتوعية الناشئة والشباب، كما تشكّل إضافة المواد اللازمة إلى المناهج التربوية خطوة مكمّلة للدور التوعويّ الرقابيّ، في هذا الإطار، مع إيجاد البدائل الكافية من وسائل الترفيه والاندماج الاجتماعيّ، خاصّة لدى الفئات العمريّة الصغيرة.

في الموازاة، يوضح الأستاذ داغر أن لا تقنيّات إلكترونيّة أو معلوماتيّة تسمح بضبط انتشار هذه المخدّرات بنسبة مئة في المئة. وهو واقعٌ يعزّزه أيضاً غياب التشريعات القانونيّة التي من شأنها منع تداول هذه الملفّات الصوتيّة الخطيرة.

لذا، لا بدّ من سنّ قوانين تجرّم تداول المخدرات الرقميّة وتعاطيها وتفرض محاسبة المروّجين وإدانتهم ومعاقبتهم، يؤكد داغر، ناهيك عن ضرورة إنشاء سلطات وهيئات ناظمة تقنية وعلمية تتابع هذه الظاهرة، سعياً لوضع خطط التوعية والمكافحة، وتضع على قائمة أولوياتها مراقبة الشركات المزوّدة لخدمات الإنترنت (Internet Service Providers)، والمؤسّسات التي تروّج لهذا النوع من المخدرات.

*لترميم الصدع سريعاً!
كثيرة هي المحاولات التي يطلقها اليوم أصحاب المصالح المشبوهة كي ينخر الفسادُ قلب المجتمعات الشابة، ليبقى الستارُ مشرعاً أمام تساؤلاتٍ جمّة حول الأهداف الخفية المرجوّ تحقيقها.. فإما أن تنقلب المحاولات إلى ظواهرَ شاذة تكمنُ عند الأوردةِ الأساسيّة لتقتاتَ على القيمِ والتماسك المجتمعيّ، وإمّا أن يُرمَّم الصدعُ سريعاً، فلا تتسلّل إلى جوفِ منابعنا ملوّثاتٌ قاتلة كما المخدّرات!
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع