آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي دام ظله
يقول الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 32- 33).
تزفّ هاتان الآيتان البشرى للمسلمين بشمول الإسلام العالم بأسره، وبأنّ أعداء الإسلام لن يفلحوا في إطفاء جذوة الإسلام أبداً، وأن هناك يوماً سيأتي ليعمّ هداه الأديان كلّها. متى يتحقّق هذا الهدف؟ بداية نعرض بعض دلالات الآية الشريفة وعلاقتها بتحقّق دولة الحقّ الظاهر.
*الهدى ودين الحقّ
إنّ المقصود من الهدى في الآية الكريمة هو الدلائل الواضحة والبراهين الجليّة، الموجودة في الدين الإسلاميّ.
وأمّا المراد من دين الحقّ، فهو أنّ هذا الدين أصوله حقّة وفروعه حقّة، ومحتواه حقّ، ودلائله وبراهينه حقّة، وتأريخه حقّ جليّ. ولا شك في أنّ الدين الذي يكون كذلك لا بدّ وأن يظهر على جميع الأديان، خاصةً أنّ الحركات المضادّة للإسلام حركات مخالفة لسير التأريخ وسنن الخلق.
*الانتصار للمنطق أم للقوة؟
ثمّة اختلاف في كيفيّة ظهور الدين الإسلاميّ وانتصاره على سائر الأديان. فاعتبره بعض المفسّرين انتصاراً منطقيّاً استدلاليّاً فحسب؛ لأنّ الإسلام من حيث منطقه ودلائله لا يقاس به دين آخر. غير أنّ التحقيق في موارد استعمال مادة "أظهر" في قوله تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ يكشف أنّ هذه المادة غالباً ما تستعمل في القدرة الظاهرية والغلبة المادية، كما جاء في قصة أصحاب الكهف: ﴿إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ﴾ (الكهف: 20)، وكما نقرأ في شأن المشركين: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلّاً وَلاَ ذِمَّةً﴾ (التوبة: 8).
وعلى هذا، يكون ظهور الإسلام مطلقاً من جميع الجهات كمفهوم الآية، التي هي مطلقة من جميع الجهات أيضاً، فيكون المعنى أنّه سيأتي يومٌ ينتصر فيه الإسلام انتصاراً منطقيّاً وانتصاراً ظاهريّاً، في امتداد سيطرته ونفوذه المطلق وحكومته العامة على جميع الأديان، وسيجعل جميع الأديان تحت شعاعه.
*القرآن وظهور المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف
تكرّرت آية إظهار الدين الآنفة الذكر بالألفاظ ذاتها في سورة الصفّ (الآية 9)، وفي سورة الفتح (الآية 28) مع اختلافٍ يسير. وهي تخبر عن حدث مهمّ كبير استدعت أهميته أن تتكرّر الآية في القرآن. وهذا الحدث الذي أخبرت عنه الآية بإطلاقها هو استيعاب الإسلام للعالم بأسره.
بعد ذلك، لا يبقى وجهٌ لحصر الانتصار في منطقة معينة ومحدودة، والقول إنّه قد حدث ذلك فعلاً في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو ما بعده من العصور للإسلام والمسلمين! ولكن، لا شكّ في أنّ هذا الانتصار المطلق لم يتحقّق إلى يومنا هذا، ولكنّ تحقّقه وعدٌ حتميٌّ. وما سرعة انتشار الإسلام وتقدُّمه في العالم، والاعتراف الرسميّ به من قبل الدول الأوروبية المختلفة، ونفوذه السريع في أفريقيا وأمريكا، وإعلان كثير من العلماء والمفكّرين اعتناقهم الإسلام، إلّا مؤشّرٌ على أنّ الإسلام آخذٌ باستيعاب العالم شيئاً فشيئاً.
إلّا أنّه طبقاً للمصادر الإسلاميّة المختلفة، فإنّ هذا الظهور التامّ للإسلام، إنّما يتحقّق عند ظهور المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ينقل الشيخ الطبرسيّ رحمه الله في مقام تفسيره للآية محلِّ البحث، عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "إنّ ذلك يكون عند خروج المهديّ، فلا يبقى أحد إلّا أقرّ بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم"(1). كما إنّ الشيخ الصدوق قدس سره روى عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: "والله ما نزل تأويلها بعد، ولا ينزل تأويلها حتّى يخرج القائم، فإذا خرج القائم لم يبقَ كافر باللّه العظيم"(2). وتوجد أحاديث أخرى بهذا المضمون وردت عن أئمّة المسلمين عليهم السلام. كما إنّ جماعة من المفسّرين ذكروا هذا التفسير في ذيل الآية أيضاً.
*صاحب "المنار" ورأيٌ شاذّ
إنّ صاحب تفسير "المنار" يرفض هذا التفسير المذكور آنفاً، بل ناقش في أحاديث المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأنكر، بتعصّبه الخاصّ، جميع الأحاديث الواردة في شأنه عجل الله تعالى فرجه الشريف، وقال: "إنّ هذه الأحاديث لا يمكن قبولها بحال"، وزعم أنّ الاعتقاد بوجود المهديّ من أفكار الشيعة ومعتقداتهم، وأنّ الاعتقاد بوجود المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف مدعاة للتخلّف والركود!
لذلك، نرى من المناسب أنْ نرد على صاحب "المنار" بنقل كلام لأحد علماء رابطة العالم الإسلاميّ، ليتّضح أنّ مسألة ظهور المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف تعتقد بها الأغلبيّة الساحقة من المسلمين.
*الروايات الإسلامية في المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف
نذكر أولاً أنّ الروايات الواردة في المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف من الكثرة، بحيث لا يستطيع أي محقّق إسلاميّ -من أيّ مذهب كان- أن ينكر تواترها. وقد كُتبت كتب كثيرة في هذا الصدد، وقد اتّفق مؤلفوها على صحة الأخبار الواردة في المصلح المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، إلّا أنّ أفراداً معدودين، كأحمد أمين المصريّ وابن خلدون ومن تبعهما، يشكّكون في صدور هذه الأحاديث عن نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم!
*المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في رسالة رابطة العالم الإسلاميّ
في رسالةٍ لمدير رابطة العالم الإسلاميّ جواباً عن سؤالٍ ورد إليها في شأن المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف جاء فيها:
"عند ظهوره [المهديّ] يكون العالم مليئاً بالفساد والكفر والجَور، فيملأ الله به [المهديّ] العالم عدلاً كما ملئ ظلماً وجوراً، وهو آخر الخلفاء الراشدين الاثني عشر الذين أخبر عنهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في كتب الصحاح.
والأحاديث المتعلّقة بالمهديّ نقلها عدّةٌ من الصحابة بلغ عددهم عشرين راوياً صحابيّاً، روَوا عن النبيّ في المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وغيرهم كثير أيضاً. وهناك أحاديث كثيرة عن الصحابة أنفسهم، ورد فيها الكلام عن ظهور المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ويمكن أن تضاف هذه الروايات إلى الروايات الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنّ ذلك -أي الكلام في المهديّ- لم يكن مسألة اجتهادية ليمكن الاجتهاد فيها، فبناءً على ذلك فإنّ الصحابة قد سمعوا هذا الموضوع من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم".
ثمّ تضيف الرسالة: "إنّ الأحاديث المرويّة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في شأن المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف مذكورة في كتب الحديث والكتب الإسلامية الأخرى، سواء منها السنن أو المعاجم أو المسانيد، والتي منها: سنن أبي داود، وسنن الترمذيّ، وسنن ابن ماجة... وغيرها". كما وتضيف أيضاً: "إنّ بعض علماء المسلمين كتبوا في هذا الشأن كتباً خاصّة، منهم: أبو نعيم في (أخبار المهديّ)، وابن حجر الهيثميّ في (القول المختصر في علامات المهديّ المنتظر)، والشوكانيّ، في (التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجّال والمسيح)... وغيرها.
وتضيف: "إنّ جماعةً من علماء الإسلام قديماً وحديثاً صرَّحوا في كتبهم بأنّ الأحاديث الواردة في المهديّ تقرب من التواتر ولا يمكن إنكارها بأيّ وجه، ومنهم: السخاويّ في (فتح المغيث) ومحمد بن الحسن السفارينيّ في (شرح العقيدة) وأبو الحسن الأبريّ في (مناقب الشافعيّ) وابن تيمية في (فتاواه)... وغيرهم".
وتختم الرسالة بالقول: "إنّ ابن خلدون وحده أنكر الأحاديث في المهديّ، إلّا أنّ علماء الإسلام ورجاله ردّوا على مقالته، وخاصة أبو العباس ابن عبد المؤمن في كتابه (الوهم المكنون في الردّ على ابن خلدون). وإنّ حفّاظ الأحاديث والعلماء الكبار يقولون: إنّ الأحاديث في المهديّ تشتمل على الصحيح والحسن، ومجموعها متواتر. فبناءً على ذلك، يكون الاعتقاد بظهور المهديّ واجباً على كلّ مسلم، ومن عقائد أهل السنّة والجماعة ولا ينكرها إلّا الجهلة أو المبتدعون... إلخ".
1- مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، ج5، ص45.
2- كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص670.