مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قصة قصيرة: حتى نلتقي‏

حسن زعرور


لم يلتفت إليها أحد، في غمرة انشغال كل واحد بنفسه وحماسته المتأججة، كانت الجلبة على مداها، وصراخ الحناجر يتماوج "الموت لإسرائيل"، وكان ترديد هاتين الكلمتين يزيد النار في الأنفس الثائرة تأججاً، شبه بركان أمضّه الاحتقان فتفجر بعد كبت سنواتٍ وسنوات، وانبثق لهبه من الأعين والأكف والحناجر دوياً.

أما هي، فبقيت على إنزوائيتها تلك، وعيناها تنظران بلهفة إلى ما خلف السياج، وإمارات قلقٍ وحيرةٍ تعصف بها، يحدوها الأمل فتبترد سحنتها ثم يمضُّها الانتظار فتتقلقل في وقفتها رغم عمرها الستيني. والجسد المتهالك (ينوس) فوق رجليها المتعبتين، وما لبثت أن جلست وقد أعياها الانتظار ويداها تتشاغلان بتوتر، تارةً بحبيبات الرمل حولها وطوراً بشالها الأسود الذي ما فتى‏ء ينزاح عن كتفيها كأنما أعياه صبره أيضاً، تتلقفه ثم تعيد إلقاءه إلى الخلف وتعود ترنو فينكسر نظرها نحو الأرض من جديد غارقة في عالمها غير عابئة بما يجري حولها.

وتتذكر أم أحمد تلك الليلة كأنما هي بالأمس، لطالما استرجعتها مراتٍ ومرات صبحاً وظهراً ومساءً، حتى باتت رفيقة عمرها المتعب. لم يهنأ نهارها بليل تذكره، ويد أمها تهزها بعنف في فراشها المهترى‏ء، أتعبها حلمها ولم يتعب حتى باتت أدق تفاصيله جزءاً منها، ورأت نفسها وهي ابنة ثمانية تستيقظ مشدوهة تتطلع نحو أمها بوجهها المرتعب، وأصوات صراخ وولولة وأزيز رصاص وطلقاتٍ متتابعة في الخارج. تطلَّعت ببله إلى اخوتها عيشة وأحمد وفارس وقد أعيت الصدمة والرعب ألسنتهم، ثم رأت شقيقها محمود بسنيّه الثلاث عشرة متعلقاً بقفطان أمه يرتجف وقد تحلّب ريقه، وضاقت حنجرته فمأمأ لاهثاً "أمّه أمّه شو نساوي"؟ "اهربوا" قالت الأم "اهربوا" كررتها كأنما لا تمتلك سواها من الكلمات، ولكن إلى أين؟ وكيف؟ حتى هي لم تكن تدري، وكل ما فعلته أنها فتحت الباب على مصراعيه، وعدت بأولادها إلى الخارج حتى قبل أن تعي ما يحصل.

كانت ساحة "أم الفحم" قد جُنَّت، أطفال ونساء يتراكضون، متعثرين بالجثث المذبوحة، وأوجه تداس وأيدٍ ترتطم والظلام ينيره الرصاص المتطاير وتمزِّقه وحشية الصرخات، وجنود يطلقون النار على كل ما يتحرك، تطلَّعت تبحث عن إخوتها، ورأت أخاها محمود متكوِّراً على جنبه يفحص الأرض بقدميه العاريتين، وأمعاءه النازفة مضغوطة بيديه الصغيرتين دون جدوى سمعته يحشرج في ذهول "أمّه... أمّه" ولا من مجيب، كانت أمُّه على بعد أمتار منه مبعوجة الرأس وقفطانها يكشف ساقيها،... ثم رأت شقيقها أحمد يجرُّه جندي من شعره نحو المجهول، صراخه ما زال يرافق ليلها وهي أعجز عن فعل شي‏ء وأعجز عن النسيان، وأما فارس فلم تعرف أبداً ما جرى له، كل ما استطاعت فعله أنها راحت ممسوسة تبحث عن عيشة، رأتها مختبئة خلف برميل صغير يستعمل للماء فزحفت إليها على أربعٍ ثم فرَّتا معاً باتجاه الحقول. لم تعد تدري كم سارت وعيشة، ركضتا حتى الإدماء، سارتا حتى الإعياء، ثم إنهمدتا قرب تلَّة ترابية ليِّنة حتى أيقظتهما شمس اليوم التالي، وحين أنهكهما التعب والجوع مشتا متلاصقتين مترنحتين لا تجرؤان على الوقوف خشية لحاق القتلة بهما، وأخيراً ضمتهما قافلة الهاربين دون أن يلتفت أحد إليهما فلكل مصيبته.

لم تبتعد القافلة كثيراً، طلقة رصاصة واحدة أطاحت بالخط الطويل من الهاربين وانفرط عقدهم، هرب كلٌّ بنفسه يبتغي النجاة، وافتقدت عيشة فلم تجدها، لم يكن بمقدورها التوقف للبحث عنها فاستمرت تعدو، وأسعفها العُمر فوصلت الحدود اللبنانية، وهناك في الرشيدية عطف عليها من عطف وآواها من آوى فاستكانت يحدلها الزمن بسنيّه... يبس حزنها وجف الدمع ولم تتركها الحياة فتزوجت ثم أنجبت وفي الفؤاد جمرة تأبى أن تنطفئ‏. ثم كان يوم علمت فيه أن عيشة حية ترزق، ومنزلها على مرمى حجرٍ في القاطع الآخر من الحدود في قرية المزرعة فاشتعل لهيب شوقها وراحت تتلمظ إلى رؤيتها قبل أن تموت ولا أحد يكفل العمر أو الزمن، ردَّدت لنفسها مرات، وحين فرَّ الإسرائيليون من جنوبي لبنان، أيقنت أن الفرصة أتت.

عندما رفعت رأسها أبصرتها، عرفتها رغم تهدل الجفنين من الهم وبروز أخاديد وجهها من الألم والقهر، وثبت كأنما صاحبها الشباب وهرولت على عجل إلى الشريط الشائك وهي تشرق بالدمع والكلمات والتقتا ومعدن رقيق يفصل بين العناق والقبل والدمع، تلامست الأنامل وطالت النجوى، حتى كاد المغيب ينسى مغيبه فحان وقت الفراق عندها ترجّت أم أحمد أختها "عيشة، أعطني كمشة تراب من فلسطين أتقوى بها... حتى نلتقي".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع