الشيخ أحمد حاطوم
إن عظمة كل كلام وكل كتاب عادة تتحقق إما بعظمة قائله أو كاتبه، وإما بعظمة المرسل إليه وحامله، وإما لعظمة شارحه ومبيّنه، وإما بعظمة حافظه وحارسه، وإما بعظمة وقت إرساله وكيفية ووسيلة الإرسال. وفيما يخص القرآن الكريم، ما لم يطلع الإنسان على عظمة هذا الكتاب العزيز فلن يكون له اهتمام وعناية به، وبقدر ما تحصل عنده هذه المعرفة وتستقر في قلبه هذه العظمة سيكون اهتمامه وتوجهّه نحو القرآن الكريم، لذا كان لا بد من كشف معاني العظمة المتحققة في الجوانب المذكورة.
* عظمة متكلمه ومنشئه
﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ (النحل: 6) فيما يوحي به من الحكمة وفيما يفيضه من علمه الذي لا حد له ولا نهاية... وهكذا يجد فيها الإنسان الخير كل الخير والحجة كل الحجة والهدى كل الهدى في حركة الحياة والمصير... وصفتا الحكيم والعليم كلاهما إشارة إلى علم اللَّه سبحانه، فالحكمة تبيّن الجوانب العملية، والعليم الجوانب النظرية... وبتعبير آخر أن "العليم" يخبر عن علم اللَّه الذي لا غاية له ولا أمر و"الحكيم" يدل على الهدف من إيجاد هذا العلم، فمن هنا يمكننا أن ندرك عظمة المتكلم وعظمة المنشئ.
* عظمة رسول الوحي والواسطة
الواسطة بين اللَّه عزَّ وجلَّ ونبيه صلى الله عليه وآله هو جبريل الأمين، الملك المقرّب والروح الأعظم الذي يتصل بروح الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ويلقي في قلبه الوحي وكلمات اللَّه تعالى، وهو رئيس الملائكة والموكّل بالعلم والحكمة وهو منزّل الأرزاق المعنوية والأطعمة الروحية. والظاهر من آيات القرآن وأحاديث المعصومين عليهم السلام تعظيم جبرائيل عليه السلام وتقديمه على الملائكة الذين يصفهم أمير المؤمنين عليه السلام فيقول عنهم "هم أعلم خلقك بك، وأخوفهم لك، وأقربهم منك" وهم كما يقول تعالى: ﴿للَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنبياء: 27). ويقرن الإيمان بهم ويجعله البر والفضل: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ﴾ (البقرة: 177). ويجعل الكفر والعداوة من نصيب من عاداهم: ... ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين﴾َ (البقرة: 98).
وللملائكة أدوار ومهمات عديدة، أوكلها تعالى إليهم، منها:
مخاطبة الأنبياء.
- إنذار الأمم بالهلاك.
- حمل البشارات
- تأييد المؤمنين بالنصر والغلبة
- تسجيل أعمال الإنسان.
* عظمة المرسل إليه
هو قلب التقي، الإنسان الأكمل، ومرقى الكمال البشري مهبط الوحي والرحمة محمد المصطفى صلى الله عليه وآله الذي ﴿دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ (النجم: 8). وهو صاحب النبوة الخاتمة، وأكرم البشر، وسيد الموجودات عجزت كلمات الخلق عن وصفه والوقوف على قدره وعظمته، وصفه تعالى في كتابه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ (القلم: 4). فهو أصل الفضائل ومنبع الشرف، وعلَّة إيجاد الأنبياء والأولياء والملائكة وجميع العالمين وهو كما وصفه أمير المؤمنين عليه السلام بكلمات شامخة قال فيها: "خير البرية طفلاً، وأنجبها كهلاً النهج، الخطبة 105، لا يوازى فضله نهج البلاغة، خطبة 151، أرسله بالضياء، وقدمه في الاصطفاء" (نهج البلاغة، خطبة 213).
* عظمة شارحه ومبيّنه
هم الصفوة المعصومة من أهل بيت النبوة، والنخبة المنزّهة الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، حسبهم ما وصفهم به أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "لا يقاس بآل محمد صلّى اللَّه عليه وآله من هذه الأمة أحد، عترته خير العتر، وشجرته خير الشجر، لها فروع طوال، وثمر لا ينال" (النهج، الخطبة 94). وأيضاً: "... نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحلم، والأعظمون عند اللَّه قدراً" (النهج، الخطبة 109). وهم الراسخون في العلم وعندهم علم الكتاب ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ (آل عمران: 7) لذلك كان عليهم المعوّل في شرح المبهمات من آياته وتوضيح حقائقه.
* عظمة حافظه وحارسه
هو اللَّه تعالى جلّ جلاله ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9) ذلك القرآن هو معجزة الإسلام، وكون الإسلام هو الرسالة الخاتمة والباقية إلى يوم القيامة فينبغي أن تبقى معجزته مستمرة باستمراره، لأنها الدليل عليه والمرشدة والمنبهة إلى سبيله، فنرى أن الرسالات السابقة انتهت معجزاتها لأنها آنية، في حين أن الإسلام هو شريعة اللَّه التي ستحكم الدنيا حتى زوالها. من هنا كان لمعجزة النبي صلى الله عليه وآله خصوصية البقاء والحفظ، والسلامة من التحريف والنقص والزيادة، وهذا الأمر إنما تمَّ برعاية اللَّه وعنايته بكتابه العزيز، من خلال صفوة من خلقه جعلهم عيناً ساهرة على حفظ الشريعة وصحيفتها المباركة، التي هي أساس الإسلام.
* عظمة زمان النزول
إن لبعض الأوقات والأزمنة خصوصية ملأها اللَّه تعالى بالفضل وكرّمها وشرفها على غيرها كما في شهر رمضان ويوم الجمعة وأوقات الصلاة. وشهر رمضان فيه ليلة هي أشرفها وأعظمها على الإطلاق وهي ليلة القدر زمان نزول آيات الوحي من لدن الرحمن إلى السماء الدنيا، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ (القدر: 1) وقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ...﴾ (الدخان: 3). ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ وألف شهر تساوى 83 سنة أي بمقدار حياة إنسان استوفى كل عمره تقريباً. ومن هنا يتضح مدى أهمية وعظمة الوقت الذي اختص به جلّ وعلا نزول كتابه، ومدى أهمية العيش في ظلال هذه الأوقات والاستفادة منها. فمن عرف جوانب العظمة هذه وكان له قلب سليم أو ألقى السمع وهو شهيد، فلا بد أن يسارع ويبادر إلى الالتزام بالقرآن حملاً(1) وقراءة وعملاً، ويجعل له الدور الأول في حياته ليرتقي به إلى مقام القرب من اللَّه تعالى وذلك هو الفوز العظيم لأن القرآن لنا كمسلمين هو القاعدة الأساس في بناء شخصية فكرية ثقافية روحية تنطلق بنا في حياتنا العملية إلى الأهداف الكبرى التي يريدها اللَّه عزّ وجلّ للحياة والإنسان.
(1) هناك روايات عديدة تؤكد على فضل حامل القرآن منها قوله صلى الله عليه وآله: "حملة القرآن عرفاء أهل الجنة" (البحار، ج92، ص177) والحمل هنا له معنى الدراية والرعاية أيضاً.